المفتاح لإطلاق العنان لتمويل جهود التنمية

المفتاح لإطلاق العنان لتمويل جهود التنمية

- ‎فيمقالات رأي دولية, واجهة
laura carvalho

لورا كارفاليو : مديرة قسم الازدهار الاقتصادي والمناخي في مؤسسات المجتمع المفتوح، وأستاذة مشاركة في الاقتصاد بجامعة ساو باولو.

لقد ولّى زمن “المساعدات السخية” من الدول الغنية. فالتزام العالم المتقدم بالمساعدات الإنمائية الرسمية (ODA) يتلاشى بسرعة. إذ تتجه ميزانيات المساعدات نحو الركود، بل وتنخفض أحيانًا، نتيجة لتحولات في الأولويات المحلية، واستقطاب سياسي متزايد، وضغوط من “الصقور الماليين” في الولايات المتحدة وأوروبا. أما تعهدات تمويل المناخ، التي كانت تُعدّ دليلاً على التضامن العالمي، فأصبحت تُستوفى في كثير من الأحيان من الالتزامات القائمة أصلاً، لا من أموال جديدة.

لكن التراجع في تقديم المساعدات لا يشكل سوى جزء من الصورة. فالمشكلة الأعمق والأكثر تآكلاً هي أن دول الجنوب العالمي، رغم تلقيها مبالغ زهيدة من الدول الغنية، تقوم بتحويل مبالغ أكبر بكثير إلى الخارج. ووفقًا لبحث جديد صادر عن معهد أبحاث الاقتصاد السياسي بجامعة ماساتشوستس في أمهيرست، فإن الدول النامية في أفريقيا شهدت تدفقات مالية خارجة بلغت 2.7 تريليون دولار بين عامي 1970 و2022، بينما بلغت التدفقات الداخلة من المساعدات والاستثمار الأجنبي المباشر 2.6 تريليون دولار فقط. ورغم الحديث المتكرر عن “تعبئة رأس المال” من أجل التنمية، فإن النظام المالي العالمي أفضى إلى خسارة صافية لأفريقيا.

إعلان يمكن النقر عليه

بعض هذه التسريبات معروف منذ زمن؛ فتهريب رؤوس الأموال، والتهرب الضريبي، وتحويل الأرباح من قبل الشركات متعددة الجنسيات، كلها مسائل موثقة. لكن الوضع تفاقم بسبب الصدمات الناتجة عن ارتفاع أسعار الفائدة، وزيادة تكاليف خدمة الديون، وعزوف القطاع الخاص عن الاستثمار في الجنوب العالمي. وبينما تنشغل حكومات المانحين بالتساؤل عمّا إذا كان بإمكانها تقديم المزيد، تستمر دول الجنوب في استنزاف مواردها.

والحقيقة المؤلمة هي أن تمويل التنمية لا يتعلق فقط بزيادة المساعدات، بل بمنع التسربات وتمكين الدول من تعبئة رأس مالها الخاص بشروط ميسرة. وهذا يتطلب إعادة التفكير جذريًا في بنية نظام التمويل التنموي.

أول خطوة هي تغيير الخطاب السائد. بدلًا من التركيز على تراجع سخاء مجموعة السبع، أو التعلّق بآمال أن تستيقظ الدول الغنية على مسؤولياتها التاريخية، ينبغي أن نُدرك الإمكانات غير المستغلة لمؤسسات الجنوب الماليّة.

من بين هذه المؤسسات، تظل البنوك الوطنية للتنمية (NDBs) غير مستغلة بالشكل الكافي، رغم أن الموارد العامة المحلية تُعدّ من أكثر مصادر التمويل التنموي استقرارًا. فالتمويل المحلي يميل إلى أن يكون أكثر ثباتًا من المساعدات، وأكثر مساءلة من رؤوس الأموال الخاصة المتنقلة، كما أنه غالبًا ما يتماشى مع أولويات التنمية الوطنية. لكن لتعبئة الموارد على نطاق واسع، تحتاج الدول إلى وسطاء ماليين عامين أقوياء ومؤهلين.

وعند تمكينها بشكل صحيح، فإن البنوك الوطنية للتنمية مؤهلة بشكل فريد لهذا الدور. فهي تمتلك فهمًا عميقًا لمخاطر السوق المحلية، ويمكنها الإقراض في الأوقات التي يتراجع فيها القطاع المصرفي التجاري، كما يمكنها جذب التمويل الخاص عبر امتصاص المخاطر في المراحل الأولى من المشاريع. وبعضها يفعل ذلك بالفعل: البنك الوطني للتنمية في البرازيل (BNDES)، وبنك التنمية لجنوب أفريقيا، وشركة البنية التحتية الإندونيسية PT Sarana Multi Infrastruktur، جميعها تُظهر كيف يمكن للبنوك الوطنية دفع عجلة تطوير البنية التحتية، والابتكار، وبناء القدرة على التكيف مع تغير المناخ.

فلماذا لا يُعمم هذا النهج؟ السبب في كثير من الدول أن هذه البنوك تواجه تكاليف اقتراض مرتفعة، نظرًا لأنها مرتبطة بتصنيف دولها السيادي. وبسبب اضطرارها للاقتراض بأسعار فائدة مرتفعة، فإنها تضطر للإقراض بأسعار أعلى. كما أن وصولها إلى التمويل الدولي محدود، وتكليفاتها ضيقة، وهياكل حوكمتها قديمة.

الخبر السار هو أن البنوك الإنمائية متعددة الأطراف (MDBs) – مثل البنك الدولي، والبنوك الإقليمية للتنمية، ومؤسسات مثل بنك التنمية الجديد – تستطيع المساعدة في معالجة هذه المشكلات. وبدلًا من محاولة الإقراض مباشرة في كل بلد وقطاع، ينبغي أن تركز على تقوية وتعزيز رأس مال البنوك الوطنية. من خلال تقديم تمويل ميسّر، واستثمارات في رأس المال، وضمانات للقروض، ودعم تقني، يمكنها مساعدة هذه البنوك على تقديم قروض بشروط أفضل، وتوسيع عملياتها، وتحمل مخاطر أكبر لخدمة التنمية.

وقد قدم مركز سياسات التنمية العالمية بجامعة بوسطن مؤخرًا حججًا قوية لصالح هذا النموذج من “التمويل المختلط من القاعدة إلى القمة”. فعندما تتحمل البنوك متعددة الأطراف المخاطر الأولية – عبر ضخ رأس مال أو ديون مؤجلة في البنوك الوطنية – فإنها تُسهم في تعبئة المدخرات المحلية، وجذب استثمارات صناديق التقاعد، وبناء محفظة مشاريع تنموية متجذرة في الخطط الوطنية، لا في تفضيلات المانحين. وهذا ليس مجرد تعديل تكنوقراطي، بل هو تحوّل جذري يعترف بأن الجنوب العالمي ليس متلقيًا سلبيًا للتمويل، بل قائدًا لتنميته الخاصة.

صحيح أن إصلاحات إضافية مطلوبة. فالبنوك الوطنية بحاجة إلى مزيد من الشفافية، وتطوير استراتيجيات إدارة المخاطر، وتحسين توافق عملياتها التمويلية مع الأهداف البيئية والاجتماعية. وكذلك، يتعين على البنوك متعددة الأطراف تجاوز نماذجها التقليدية الجاهزة للمخاطر، والاستثمار الجدي في بناء القدرات المؤسسية، لا الاكتفاء بالمشاريع العملاقة.

والعائد المحتمل هائل. تخيّل عالمًا لا تستخدم فيه البنوك الإنمائية متعددة الأطراف تريليون دولار من رأس مالها لتقديم المزيد من القروض فقط، بل لتحفيز أكثر من عشرة تريليونات دولار من الاستثمارات العامة والخاصة من مصادر محلية في دول الجنوب. سيكون تمويل التنمية في هذه الحالة موجهًا من الأولويات الوطنية، ومدعومًا برأس المال العالمي، ومركّزًا على تحولات طويلة الأمد.

ومع اجتماع الوفود من مختلف أنحاء العالم في إشبيلية بمناسبة المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، تزداد القناعة بالدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه البنوك الوطنية للتنمية في تعبئة الموارد المحلية وتعزيز النمو الشامل. والتحدي الآن هو تحويل هذا الفهم إلى تحول جذري في النهج.

المسألة ليست في زيادة أو تقليص المساعدات، بل في استبدال النهج الحالي بنظام أكثر عدالة وفعالية، يوقف التدفقات المالية الصافية الخارجة، ويضمن السيادة الاقتصادية الحقيقية. النظام المطلوب موجود بالفعل في شكل أولي. وحان الوقت الآن لنمنحه الحياة الكاملة.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *