مسؤولية النرويج تجاه الأجيال القادمة

مسؤولية النرويج تجاه الأجيال القادمة

- ‎فيمقالات رأي دولية, واجهة
Sophie Howe النرويج

صوفي هاو : أول مفوضة لشؤون الأجيال القادمة في ويلز.

على مدار الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، اجتمع 56 مواطنا نرويجيا لمناقشة الكيفية المثلى لاستخدام الثروة النفطية الهائلة التي تملكها بلادهم، بما يخدم الأجيال الحالية والقادمة، محليا وعالميا، وعلى عكس السياسات التقليدية التي يتولى صنع القرار فيها المسؤولون المنتخبون والخبراء، فقد أتيحت لهذا “المنتدى المستقبلي” – وهو الثاني من نوعه في النرويج – الفرصة للمواطنين العاديين، الذين تم اختيارهم وفق آلية تمثيلية وزودوا بالمعرفة اللازمة، لصياغة توصيات مبنية على نقاش مستنير.

وقد أنشئ هذا المنتدى من قبل سبع منظمات من المجتمع المدني – وهي الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) في النرويج، منظمة إنقاذ الطفولة في النرويج، كاريتاس النرويج، منظمة “المستقبل بين أيدينا”، المجلس النرويجي للأطفال والشباب، ومركز الفكر “لانغسيكت” – من أجل إجراء نقاش عام يستند إلى الحقائق حول ثروة النرويج، بهدف تعزيز صوت الشعب في هذه القضية البالغة الأهمية قبيل الانتخابات العامة في سبتمبر.

إعلان يمكن النقر عليه

ومن خلال تبني نموذج أكثر جرأة للديمقراطية التشاورية يركز على الصالح الجماعي طويل الأمد بدلا من المصالح السياسية قصيرة الأجل، فإن النرويج ترسي سابقة قد تقتدي بها دول أخرى، وربما الأهم من ذلك، أن المنتدى قدم في 13 مايو توصياته إلى البرلمان النرويجي، مطالبا رسميا بإطار قانوني يتضمن تعيين مفوض خاص لحماية مصالح الأجيال القادمة، وإذا تم تنفيذ هذا الإطار، فسيكون ذلك دليلا على أن الحراك الشعبي قادر على إحداث تحول جذري في أساليب الحكم.

وقد اختبرت بنفسي إمكانيات هذا التحول عندما كنت أول مفوض لشؤون الأجيال القادمة في ويلز، التي أقرت في عام 2015 قانون “رفاه الأجيال القادمة”، وينص هذا القانون على أن تضع المؤسسات العامة في اعتبارها العواقب طويلة المدى لقراراتها، بما يضمن دمج مبادئ الاستدامة والعدالة بين الأجيال في صنع السياسات.

وقد جاء القانون نتيجة حوار وطني استمر عاما كاملا – وهو أيضا شكل من أشكال الديمقراطية التشاورية، ففي عام 2014، دعت حكومة ويلز المواطنين إلى مناقشة نوعية الدولة التي يرغبون بتركها لأبنائهم وأحفادهم، وأسهمت إجاباتهم في صياغة سبعة أهداف بعيدة المدى للرفاه، أصبحت بمثابة “نجم الشمال” الذي يهتدي به صانعو السياسات.

ويشهد العالم اليوم تناميا في الزخم الداعم لمثل هذه التشريعات، ففي سبتمبر، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلانا بشأن الأجيال القادمة، يحث الحكومات على ترسيخ التفكير بعيد المدى ضمن هياكلها المؤسسية.

وقد تكون الفرصة التي تملكها النرويج أكثر تأثيرا نظرا لحجم صندوقها السيادي النفطي البالغ 1.8 تريليون دولار، وفي ظل تسارع تغير المناخ وتعاظم الضبابية الاقتصادية، تحتاج النرويج إلى رؤية جديدة لإدارة هذه الثروة تضمن الحفاظ على رفاه الكوكب والمجتمعات.

وأول ما يجب على النرويج مواجهته هو اعتمادها الكبير على الوقود الأحفوري، كونها واحدة من أكبر مصدري النفط في العالم، وبالرغم من التزاماتها بتحقيق أهداف مناخية طموحة، منها الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، إلا أنها ما زالت تواصل توسيع أنشطة التنقيب عن النفط، متجاهلة الدعوات العالمية لتقليص إنتاج الوقود الأحفوري بشكل منظم، فضلا عن هشاشة بيئاتها الطبيعية – من التندرا القطبية إلى المضائق الواسعة – أمام التدهور البيئي. كما تواجه النرويج تحدي الانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط في ظل التحول العالمي نحو مصادر الطاقة المتجددة، ما يتطلب تنوعا اقتصاديا مدروسا لتجنب الخسائر، وحماية العمال، وضمان انتقال عادل.

إن سن قانون نرويجي شبيه بالنموذج الويلزي من شأنه أن يُدرج المسؤولية بين الأجيال ضمن قرارات السياسات العامة، بما يضمن توازنا بين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والبيئي والثقافي لكل من الحاضر والمستقبل. وفي هذا السياق، يمكن لمفوض الأجيال القادمة أن يكون صوتا مستقلًا يدافع عن التوازن، ويُلفت الانتباه إلى السياسات التي تتعارض مع أهداف القانون، ويحاسب القادة السياسيين على تحقيق هذا التوازن.

وتُثبت تحديات اليوم مدى خطورة تجاهل المستقبل في السياسات العامة. فمشكلات مثل تغيّر المناخ والتحولات الديموغرافية غالبًا ما تنبع من قرارات قصيرة النظر وتجاهل متعمد للبيانات الدقيقة والتوجهات المستقبلية. وماذا سيكون الحال مثلًا عندما تواجه النرويج، التي تشهد شيخوخة سكانية متزايدة، موجات حر شديدة قد تجهد نظامها الصحي المثقل أصلًا؟

لكن التفكير بعيد المدى لا يقتصر على الوقاية من الأزمات، بل يفتح الأفق لبناء مستقبل أفضل وأكثر أملًا. وقد قدم النموذج الويلزي بالفعل للحكومة والمؤسسات رؤية تتجاوز الدورات الانتخابية. ومنذ أن أصبحت السياسات أكثر توجّهًا نحو المستقبل، أصبحت الأولوية للاستثمار في النقل العام بدلاً من إنشاء الطرق، والتركيز على الوقاية الصحية بدلاً من علاج المرضى فقط، وحتى إحياء اللغة الويلزية التي كانت مهددة بالاندثار.

لقد قال منتدى المستقبل في النرويج كلمته، والآن تقف الحكومة على مفترق طرق. فهل ستقود النرويج العالم في التخطيط السياسي طويل الأجل، وتضمن أن ثروتها النفطية تخدم الأجيال المقبلة؟ أم ستستمر في اتخاذ قرارات قصيرة النظر تُبقي الأزمات قائمة، ليضطر الأبناء والأحفاد إلى إصلاح ما أفسده أسلافهم؟
إذا كانت رغبة المواطنين النرويجيين محل احترام، فعلى النرويج أن تتحمل مسؤوليتها في الإسهام ببناء عالم يعزز رفاه الإنسان والعدالة.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *