نجيبة جلال/
منذ اختفائه التدريجي عن المشهد الرسمي، ظل اسم إلياس العماري حاضرًا كظلٍّ ثقيل في خلفية الكثير من الأحداث التي جمعت بين النفوذ والسيولة والسطو على فكرة الدولة من خارج مؤسساتها. واليوم، تعود تحركاته للواجهة من خلال تنسيقات وتحريضات تقودها أطراف هاربة من العدالة، في مقدمتها هشام جيراندو، ما يطرح من جديد أسئلة جوهرية حول دور الرجل، وشبكة المصالح التي نسجها طيلة سنوات “تضخيمه المفتعل”.
العماري، الذي صعد بسرعة إلى قمة هرم حزبي، لم يكن يخفي نزوعه نحو توظيف السياسة كوسيلة للتأثير، بل وللتوجيه الخفي في ملفات لا صلة لها بالعمل المؤسساتي. ومن أخطر المغامرات التي ارتبطت باسمه تلك التي وقعت في سنة 2014، حين انخرط في مشروع وهمي للاستثمار في المعادن بشمال مالي، بتنسيق مع رجل الأعمال مصطفى بزيويط، وبتوظيف علاقاته لتلميع صورة المشروع أمام أنظار المستثمرين المغاربة.
الضحية الأبرز لذلك المخطط كان رجل الأعمال المعروف لحسن جاخوخ، الذي استدرجه إلياس العماري بنفسه، مستغلًا ما كان يوهم به من قرب من مراكز القرار، وقدرته على “تعبيد الطريق” أمام أي مشروع مهما كانت طبيعته. وبحسب معطيات موثوقة، فقد جلس العماري مع جاخوخ، وروّج أمامه لفرصة استثنائية للاستثمار في شركة تُدعى “الباب للمعادن”، زاعمًا أن المنطقة المستهدفة تزخر بالفوسفاط والمنغنيز والذهب، وأن الظروف السياسية “مهيأة” بفضل ترتيبات خاصة قيد الإعداد.
جاخوخ، المعروف بحماسته لدعم مشاريع تنموية في إفريقيا، صدّق ما عُرض عليه، بل وقام بتحويل مبالغ مالية ضخمة إلى حسابات الشركة، انطلاقًا من بنك في الغابون، بعد أن تلقى تطمينات مباشرة من العماري نفسه، الذي قدّم نفسه كضامن سياسي للمشروع. الرخص تم الحصول عليها، لكنها بقيت على الورق، ولم تُنجز أي أشغال ميدانية. ثم بدأت معالم النصب تتضح، واختفى بزيويط، واختفى المشروع، وبقي جاخوخ تحت وقع الصدمة، قبل أن تتدهور صحته، ويلقى حتفه في ظروف مؤلمة، طويت بعدها صفحة واحدة من أكثر العمليات غموضًا في تداخل المال بالسياسة.
ولم يكن هذا سوى وجه من أوجه توظيف العماري للنفوذ لأغراض شخصية، وهو النهج نفسه الذي يظهر اليوم عبر دعمه وتحريضه لهشام جيراندو، الهارب من العدالة والمحكوم بـ15 سنة سجناً نافذاً في قضايا تمس الأمن الوطني. جيراندو، الذي حاول منذ أسابيع إعادة تسويق نفسه كـ”منفي سياسي”، تلقى، حسب معطيات دقيقة، دعماً لوجيستياً وإعلامياً من العماري، الذي يسعى إلى تصفية حسابات قديمة مع الدولة، عبر أدوات مستعملة وشخصيات فقدت كل مشروعية.
وقد كشفت تحركات جيراندو الأخيرة، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي وبعض الوسائط الأجنبية، عن خطاب متقاطع مع ما كان يُهمس به داخل صالونات العماري في بيروت وباريس. خطاب لا يكتفي بانتقاد السياسات، بل يتجاوز إلى تحريض مباشر على مؤسسات الدولة، وترويج سيناريوهات وهمية عن “صراع داخل الأجهزة”، في محاولة لإرباك الرأي العام وخلق مناخ تشكيكي يعيد للواجهة وجوهًا لفظها المسار الوطني منذ سنوات.
إن سيرة إلياس العماري ليست مجرد قصة صعود وهبوط، بل هي مرآة لمرحلة اختلط فيها المشروع الحزبي بالمشروع الشخصي، وتداخل فيها القرار السياسي بالمغامرة المالية، واختُزل فيها الفعل السياسي في رغبة محمومة في السيطرة، ولو من خارج الشرعية. رجل لم يكن مؤمناً بالبناء المؤسساتي، بل باللعب في مناطق رمادية، يغادرها حين تنكشف، ليعود من بوابة أخرى أكثر خطورة.
وفي مغرب اليوم، حيث اليقظة الوطنية والمناعة المؤسسية في مستوى التحديات، لم يعد لمثل هذه الشبكات ما يكفي من الأوكسجين كي تتكاثر في العتمة. فالأوراق انكشفت، والسرديات احترقت، والوجوه التي احترفت التحريض تسير بخطى ثابتة نحو النسيان.