راديو إكسبرس
البث المباشر
بينما يفتخر الاقتصاد الوطني بنمو 3,7٪ خلال سنة 2023، تكشف الحسابات الجهوية للمندوبية السامية للتخطيط عن واقع أقل إشراقا، حيث تتسع الفجوات بين الجهات وتتراكم الاختلالات البنيوية على المستوى الترابي، المتوسط الوطني لا يعكس حقيقة أن بعض الجهات تتراجع أو تنكمش، بينما يتركز قلب الثروة في أقطاب محدودة، ما يطرح سؤالا جوهريا: هل النمو “موزع عادلا” أم أنه مجرد رقم على الورق؟
الواقع يظهر أن جهتين فقط سجلتا انكماشا: بني ملال–خنيفرة (-1,3٪) والجهة الشرقية (-1٪)، مما يعكس هشاشة قاعدتهما الإنتاجية واعتمادها الكبير على الفلاحة وتقلباتها المناخية، على النقيض، تواصل جهات أخرى نموا ضعيفا دون المتوسط، ما يبرز أن تعافي 2023 لم يكن شاملا ولا موزعا بعدالة على خريطة البلاد.
تتمركز الثروة الوطنية في ثلاثة محاور كبرى: الدار البيضاء–سطات، الرباط–سلا–القنيطرة، وطنجة–تطوان–الحسيمة، بحصة إجمالية تبلغ 58,5٪ من الناتج الداخلي الإجمالي، فيما تحتفظ الدار البيضاء وحدها بثلث الثروة تقريبا، هذا التمركز يترك أثرا مباشرا على نصيب الفرد من الناتج، حيث يصل إلى 89.533 درهم في الداخلة–وادي الذهب مقابل 25.324 درهم فقط في درعة–تافيلالت، ويشير إلى اتساع الفجوة بين القمم والقيعان، وما يترتب عليها من تفاوت في مستويات المعيشة وفرص الارتقاء الاقتصادي.
التركيب القطاعي يزيد المشهد سوءا، جهات مثل فاس–مكناس ودرعة–تافيلالت وسوس–ماسة والداخلة–وادي الذهب تعتمد على القطاع الأولي بحصص مرتفعة، ما يجعلها عرضة للمخاطر المناخية وتقلب الموارد المائية، بينما يتركز قلب الصناعة في الدار البيضاء–سطات وطنجة–تطوان–الحسيمة، معظم الجهات الأخرى تعتمد على الخدمات، ما يشير إلى ضعف التنويع الاقتصادي، وإلى هشاشة النمو في مناطق واسعة من البلاد.
حتى الطلب الداخلي يعكس هذا التمركز: خمس جهات وحدها تستحوذ على نحو ثلاثة أرباع إنفاق الأسر (74٪)، بينما تمثل الدار البيضاء–سطات حوالي ربع الاستهلاك الوطني، وارتفاع تشتت إنفاق الأسر من 3.188 درهم إلى 3.378 درهم يبرز اتساع الفجوات الترابية في القوة الشرائية وأنماط الاستهلاك، ويعكس تفاوتا في فرص العمل وحيوية الأسواق المحلية وجودة الخدمات العامة.
الخلاصة واضحة المشكلة ليست في حجم النمو بل في نوعيته وتوزيعه، اقتصاد يتركز إنتاجه الصناعي في محورين، ويترك مناطق واسعة رهينة لموسمية الفلاحة، ويراكم تفاوتات في الدخل والإنفاق، يحتاج إلى سياسة ترابية شجاعة، ينبغي إعادة توجيه الاستثمار العمومي والخاص وفق مؤشرات الأثر الجهوي، وتشجيع تنويع القاعدة الإنتاجية في الجهات المتأخرة، من فلاحة ذكية مائيا إلى صناعات صغيرة وخدمات ذات قيمة مضافة.
بدون هذه السياسات، ستظل معدلات النمو الوطنية “مقبولة” على الورق، بينما يختبئ خلفها واقع جهوي غير متوازن، يهدد التماسك الاجتماعي ويترك مناطق واسعة تحت رحمة المخاطر الاقتصادية والمناخية، المغرب يحتاج اليوم إلى رؤية استراتيجية تضع العدالة الجهوية والتوازن الاقتصادي في صميم النمو، بدل الاقتصار على أرقام كلية تغطي على التفاوتات العميقة.
![]()









