محمد بين صورة القرآن وصورة الفقهاء المتشددين

محمد بين صورة القرآن وصورة الفقهاء المتشددين

- ‎فيرأي, واجهة
Capture decran 2025 08 19 181755

راديو إكسبرس

البث المباشر

 

محمد تحفة/

يحتلّ النبي محمد صلى الله عليه و سلم مكانة مركزية في الوعي الإسلامي، غير أنّ صورته تختلف باختلاف المرجعية التي يُنظر من خلالها إليه: القرآن الكريم من جهة، والفقهاء المتشددون من جهة أخرى. هذه المفارقة تطرح إشكالا عميقا حول كيفيات تمثّل شخصية النبي، وحول أثر هذه التمثلات في التدين والفكر الإسلامي المعاصر.

شتان مابين محمد القرآن، نبي الرحمة والحرية

القرآن الكريم يقدّم النبي باعتباره رسول رحمة: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، أي أنّ رسالته موجهة للإنسانية جمعاء لا لمجموعة ضيقة. كما يبرز القرآن بشريته: “قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ”، مما يجعله قدوة إنسانية قريبة من الناس لا شخصية فوقية لا تُنال.

ومن أبرز سمات صورته القرآنية اللين: “فبما رحمة من الله لِنتَ لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك”. إضافة إلى ذلك، يصرّ القرآن على مبدأ حرية الإيمان: “لست عليهم بمسيطر”، “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. فالنبي في القرآن ليس سلطة قهرية، بل مبلّغ وداعٍ بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكما كنت أقول دائما فحتى عندما استفتى الناس الرسول عن النساء في الآية الكريمة :
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾

هذه الآية جاءت في سياق واضح: الناس كانوا يسألون النبي عن قضايا النساء (الميراث، اليتامى، الحقوق…)، لكن الله لم يترك الأمر لرأي المجتمع الذكوري السائد، بل قال مباشرة: “قل الله يفتيكم فيهن”.

فقطع الطريق على العقلية الذكورية المتسلطة
لأن المجتمع الجاهلي كان ينظر للمرأة ككائن تابع لا كامل الحقوق، فجاء القرآن ليؤكد أن أمرها وحقوقها لا يحددها العرف أو الذكور المتسلطون، بل يحددها الله بالعدل.
فالمجتمع وقتها كان يحمل بقايا أعراف تمييزية، لكن الله أراد أن يُظهر أن حقوق المرأة ليست مَنّة من الرجال، وإنما هي حكم شرعي ثابت صادر من الله.
عندما قال الله “يفتيكم فيهن”، فقد نقل المرجعية من اجتهادات بشرية قد تكون منحازة، إلى حكم إلهي لا يُظلم فيه أحد.

العقلية الذكورية المتسلطة قد تُميل الكفة لصالح الرجل دائمًا، فجاء النص القرآني ليقول: ليس لكم أن تشرعوا بحسب أهوائكم، الله وحده هو الذي يفصل في أمر النساء.
من الصور المشرقة الاخرى لرسول الاسلام أنه
يُروى في كتب السنة أنّ أعرابيا دخل المسجد فبال فيه، فهَمّ بعض الصحابة بالاعتداء عليه، غير أنّ النبي أوقفهم قائلا: “دعوه، وهريقوا على بوله دلوا من ماء”.

هذه الحادثة تبدو للوهلة الأولى بسيطة، ولكنها تختزن دروسا عميقة
تجسيد الحلم النبوي
في موقف كهذا، حيث اختُرمت حرمة المسجد أمام أعين الصحابة، كان رد الفعل الطبيعي هو الغضب والانتقام. لكن النبي صلى الله عليه وسلم قدّم درسا في ضبط النفس، معبّرا عن أرقى درجات الحلم والرفق. فقدّم العقل على الانفعال، والرحمة على العقوبة.
التربية بالرفق لا بالقسوة
النبي لم ينظر إلى الأعرابي كمعتدٍ، بل كجاهل يحتاج إلى التعليم. فلو استُعمل العنف معه لربما انفر من الدين كله، بينما اللطف فتح له باب الفهم. لذلك قال النبي عليه السلام “إنما بُعثتم ميسّرين ولم تُبعثوا معسرين”.

درس أخر أراه جدير بالاعتبار أن تقديس الإنسان قبل الحجر
المسجد مكان مقدس، لكن النبي فضّل صون نفس الأعرابي من الأذى على صون المكان من النجاسة. لأنه يمكن تطهير الأرض بسهولة، أما جرح الكرامة أو سفك الدم فخسارة لا تعوّض.

و رسالة أخرى في التسامح العالمي هذا الموقف يُظهر أنّ الإسلام في أصله ليس دين العقوبات الصارمة، بل دين يُقدّم الرحمة على الغضب. صورة النبي هنا هي صورة القائد التربوي الذي يفهم ضعف البشر، ويعاملهم بما يُصلح قلوبهم لا بما يُشفي غيظ الجماعة.

 

أما محمد عند الفقهاء المتشددين فهو نبي السلطة والصرامة فعلى النقيض من الصورة القرآنية، ركّزت قراءات فقهية – خصوصًا المتشددة – على تقديم النبي كقائد عسكري، ورمز للصرامة والانضباط، ومؤسس لدولة تقوم على الإلزام والرقابة. بل إنّ بعضهم ضخّم الجانب الجزئي المتعلق بالصراع والغزوات على حساب البعد الإنساني.

وهكذا تحوّل النبي، في الخطاب الفقهي المتشدد، من نموذج إنساني رحيم إلى رمز للسلطة المانعة للحرية.

هذا الاختلاف بين “محمد القرآن” و”محمد الفقهاء المتشددين” ليس مسألة شكلية، بل ينعكس على علاقة المسلمين بدينهم وبالآخر. فإذا استُحضرت صورة الرحمة والحرية، كان الدين قوة تحرر وسموّ أخلاقي. أما إذا غلبت صورة الصرامة والإلزام، تحوّل الدين إلى مشروع انغلاق وتسلط.

محمد في القرآن هو نبي الرحمة، بشر مثلنا، قدوة إنسانية في التسامح والحرية. أمّا محمد الفقهاء المتشددين فهو صورة مشوّهة تجعل من رسالته أداة للهيمنة والصرامة. ولعلّ من واجب الفكر الإسلامي المعاصر أن يستعيد صورة النبي القرآنية، حتى يُعاد للتدين روحه الأصيلة: الرحمة، الإنسانية، والحرية

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *