قراءة في خطاب العرش.. الملك يرسم ملامح مغرب جديد بلا فوارق ولا مناطق منسية

قراءة في خطاب العرش.. الملك يرسم ملامح مغرب جديد بلا فوارق ولا مناطق منسية

- ‎فيواجهة, مجتمع
IMG 20250729 WA0140

راديو إكسبرس

البث المباشر

 

اوسار احمد/

جاء خطاب الملك محمد السادس
بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش محمّلاً برؤية استراتيجية متماسكة، تؤطر مسار الدولة المغربية في مرحلتها المقبلة، وتعيد التذكير بالمرتكزات العميقة التي قامت عليها تجربة التحديث السياسي والاجتماعي والاقتصادي منذ اعتلاء جلالته العرش. لم يكن الخطاب مجرد استعراض للمنجزات، بل دعوة صريحة لنقلة جديدة في تصور الدولة والمجال، تؤكد أن المغرب لا يكتفي بتدبير الحاضر بل يصنع المستقبل بثقة ووضوح.

انطلاقاً من هذا التصور، توقف الملك عند أبرز المؤشرات الاقتصادية التي تعزز مكانة المغرب كدولة صاعدة. فقد شدد على أن التقدم المحقق لم يكن صدفة، بل ثمرة لاختيارات تنموية صائبة واستقرار مؤسساتي دام ربع قرن. وبرز هذا التقدم بشكل خاص في النهضة الصناعية التي عرفتها المملكة، حيث تضاعفت الصادرات منذ 2014، وتطورت قطاعات حيوية كصناعة السيارات والطيران والطاقات المتجددة، وهي مجالات تحولت إلى أعمدة استراتيجية للاقتصاد الوطني.

ولم تقتصر الإنجازات على الأرقام والنمو، بل امتدت إلى مشاريع بنيوية كبرى شملت البنيات التحتية والنقل والربط الطاقي. إذ أشار جلالته إلى إطلاق تمديد خط القطار فائق السرعة، إلى جانب برامج مرتبطة بالأمن المائي والسيادة الغذائية، مما يعكس وعياً ملكياً بأن التنمية لا تكتمل دون رؤية مندمجة تربط بين الإنتاج والعيش الكريم.

لكن الملك، وكعادته في مقاربة التقدم، لم يغفل الوجه الآخر للصورة. فقد عبّر بصراحة عن أن التنمية لا معنى لها ما لم تنعكس بشكل مباشر على حياة المواطنين. من هنا، جاءت الإشارة القوية إلى أن مؤشرات النمو ليست كافية إن استمرت التفاوتات المجالية، وخصوصاً في المناطق القروية والهامشية. خطاب الملك رسم في هذا الجانب خطاً فاصلاً بين نموذج قديم ونموذج جديد للتنمية، قوامه العدالة المجالية وتكافؤ الفرص.

في هذا السياق، دعا جلالة الملك إلى إطلاق جيل جديد من البرامج التنموية الترابية، تنبني على الجهوية المتقدمة والتكامل بين المناطق. هذه البرامج، كما أوضح، يجب أن تتجاوز منطق المقاربات القطاعية التقليدية، وتنتقل إلى مقاربة مجالية شاملة، تركز على تثمين المؤهلات المحلية، وتعزيز التشغيل، وضمان الإنصاف في خدمات الصحة والتعليم، والتدبير الذكي للموارد المائية. وهي مقاربة تترجم عملياً إرادة ملكية راسخة لبناء مغرب لا يسير بسرعتين، بل بقدم واحدة نحو الأمام.

هذا الربط بين التنمية والمجال لم يكن معزولاً عن البعد السياسي، إذ شدد الخطاب على ضرورة الاستعداد المبكر للانتخابات التشريعية المقبلة، وضمان وضوح الإطار القانوني المنظم لها قبل نهاية السنة. وهي رسالة تعكس حرصاً ملكياً على تقوية المؤسسات، وترسيخ المصداقية الديمقراطية، واستباق التحديات بما يعزز ثقة المواطن في المسار السياسي.

ولأن الموقع الإقليمي للمغرب يشكل جزءاً من مقاربته الاستراتيجية، فقد خصص جلالة الملك جزءاً مهماً من الخطاب للعلاقات مع الجزائر، مجدداً دعوته الصادقة للحوار والانفتاح، ومؤكداً أن الشعب الجزائري يظل شعباً شقيقاً تجمعه بالمغرب روابط التاريخ والمصير المشترك. الدعوة الملكية لم تكن بروتوكولية، بل نابعة من إيمان واضح بأن تجاوز الخلافات ممكن، وأن بناء مغرب كبير وفاعل لا يمكن أن يتحقق دون انخراط مشترك وواقعي.

وفي السياق ذاته، لم تغب قضية الصحراء المغربية عن الخطاب، حيث عبّر الملك عن ارتياحه للدعم الدولي المتزايد لمبادرة الحكم الذاتي، مشيداً بالمواقف الصريحة لعدد من الدول الكبرى، كالمملكة المتحدة والبرتغال، التي انضمت إلى لائحة طويلة من الدول الداعمة للوحدة الترابية للمملكة. هذا التراكم الدبلوماسي لا ينفصل عن القيادة الهادئة والحازمة التي يدير بها المغرب هذا الملف، بعيداً عن التشنج أو المناورات.

وعبّر جلالة الملك في ختام خطابه السامي عن اعتزازه بكافة مكونات القوات الأمنية والعسكرية، مشيداً بتفانيها تحت قيادته، ومستحضراً بإجلال الأرواح الطاهرة للشهداء، وعلى رأسهم المغفور لهما محمد الخامس والحسن الثاني، في لمسة وفاء ترسّخ استمرارية الدولة وروح المسؤولية التي تحكم علاقتها بالمواطن.

هكذا، لم يكن خطاب عيد العرش مجرد لحظة احتفالية، بل وثيقة سياسية واجتماعية بامتياز، تعكس نضج الدولة المغربية في ظل قيادة ملكية تجمع بين الواقعية والطموح، وتضع الإنسان، في كل تحول، في قلب السياسات والرهانات. خطاب يؤكد مرة أخرى أن المشروع المغربي ليس رد فعل على الأزمات، بل بناء عقلاني لمستقبل أكثر إنصافاً واندماجاً، بمنطق الدولة التي تعرف ما تريد، وتعرف كيف تصل إليه.

1 144 زيارة , 2 زيارات اليوم

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *