راديو إكسبرس
البث المباشر
علينا أن نتعلم وبشكل جماعي أن المُشهر، والمُسرب، وإن كان على صواب، يظل معضلة أخلاقية وسياسية ينبغي تفكيكها لا تمجيدها.
ذلك أن اللجوء إلى التشهير أو التسريب خارج آليات القضاء ومؤسسات الدولة ليس بطولة، بل قنبلة موقوتة تهدد شرعية المؤسسات وتغذي الشك في الدولة. يجب أن نُرسّخ ثقافة مفادها أن حتى إذا كانت المعلومات المُسربة حول وزير أو مسؤول صحيحة، فإن مكان النظر فيها هو ردهات المحاكم، لا صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ولا فيديوهات المقاهي الرقمية.
من هذا المنطلق بالضبط، خرج عبد اللطيف وهبي، وزير العدل في الحكومة المغربية، ليضع إصبعه على الجرح المفتوح: نحن بصدد حرب جديدة، لا تُخاض بالسلاح، بل بالمعلومة؛ لا تقودها جيوش، بل هاكرز يختبئون خلف أسماء رمزية، مثل “جبروت”، التي أصبحت توقيعًا لأكبر موجة اختراق رقمي تستهدف مؤسسات الدولة.
في حواره الأخير مع موقع “هسبريس”، لم يخرج وهبي ليبرئ نفسه، بل خرج ليعيد تعريف الخطر. بدا كمن يحفر في الصخر ليشرح للناس ما لا يُقال: الدولة اليوم ليست فقط قوانين ومؤسسات، بل أيضًا حدود سيادية رقمية يتم اختراقها، والتصفيق لها من الداخل!
منذ شهور، ظهرت “جبروت” كاسم غامض يهدد البنية السيادية للمغرب، لا من خلال تفجير أو رصاصة، بل عبر تسريب ملفات، وبث تسجيلات، وإرباك للرأي العام. اختراق لا يُقاس بحجم الضرر التقني فقط، بل بمدى قدرته على خلخلة الثقة في مؤسسات الدولة، وتحويل أي شائعة إلى “قناعة” تتناقلها الألسن بلا تحقق.
وهنا تكمن المفارقة القاتلة: بعض الأصوات الداخلية التي يُفترض بها أن تكون حارسة للسيادة، تحولت إلى أبواق تروّج للاختراق وتشرعنه، تحت ذريعة “الحق في المعلومة”، في حين أن ما يجري ليس سوى حق في التلاعب بالعقول.
في قلب هذه الفوضى، وقف وهبي ليقول كلمته:
“نحن لسنا دولة مارقة ولا صعلوكة.”
لم تكن مجرد جملة، بل كانت إعلانًا واضحًا بأن الدولة تُدار بالقانون، لا بالتسريب. وأن العدالة تُمارَس في المؤسسات، لا في حسابات مجهولة النسب تنشر الوثائق المقتطعة بعناوين مثيرة، وتُبنى عليها اتهامات أخلاقية وقانونية بلا سند ولا دليل.
وسُئل وهبي عن انسحاب رئيس “ترانسبارنسي المغرب”، خبر استُعمل لإقحام الحكومة في اتهامات بالفساد فلم يبرر، بل أعاد بناء القصة كما هي: انتهاء مهمة قانونية، لا غضب ولا استقالة، بل فُسرت بخبث لتُصبح عنوانًا مسمومًا على المواقع الإخبارية.
الوزير لم يكن فقط يردّ على تسريبات، بل كان يدق ناقوس الخطر حول ما هو أخطر: كيف تُصنع الأخبار؟ كيف يُروّج لها؟ كيف يمكن لكذبة بسيطة أو تسريب ناقص أن يُغرق الرأي العام في الضباب، ويُضيف لبنة أخرى في جدار الشك العام الذي تبنيه جماعة مثل “جبروت”.
لكن ما لم يُقال صراحة، وفُهم من بين سطور حديث وهبي، أن المعركة لم تعد في البرلمان، ولا في المحاكم، بل في “المنطقة الرمادية” حيث تُمتهن السردية، وتُغتال الحقيقة.
وهبي لم يُنادِ بالحظر أو القمع، بل بتطوير التفكير الأمني المعلوماتي، وتعزيز البنية الرقمية الوطنية، لأن العدو لم يعد ظاهراً، بل شبحًا رقمياً يتحرك في الخفاء، ويصيب المؤسسات في قلب مشروعيتها.
اليوم، لم تعد الحروب تبدأ بدبابة ولا تنتهي باتفاق، بل تخاض في الخوادم الإلكترونية، وعلى منصات تبث الفتنة كأنها معلومة، وتخترق الوعي الجمعي بنفس قوة الاختراق التقني.
وقالها وهبي بسخرية مرة، وبجدية مرة أخرى:
هل تحارب الدولة الفساد فقط بالاعتقالات؟
وهل تختزل شرعيتها في مؤشرات دولية تحكمها معادلات ضبابية؟
وهل يُعقل أن نُسقط حكومة بكاملها بسبب تسريب جزء من وثيقة لم يُعرف من سربها ولا لمَ سربها؟
هنا بيت القصيد. فـ”جبروت” ليست مجرد مجموعة هاكرز، بل رمزية لفكرة خطيرة: أن الشرعية الرقمية باتت تُهدد الشرعية السياسية، وأن مؤسساتنا يمكن أن تُغتال معنويًا، لا برصاصة، بل بملف مُفبرك، أو تسريب مشبوه.
وفي قلب هذه الزوبعة، لم يختبئ وهبي، ولم يتوارَ، بل تحدث بصراحة قلّ نظيرها. دافع عن نفسه، نعم، لكنه دافع أيضًا عن فكرة الدولة، وعن أهمية أن نعيد التوازن بين الحرية والأمن، بين الحق في المعلومة وواجب حماية المؤسسات.
وفي زمن “جبروت”، هذا في حد ذاته، سلوك سياسي لا يقل أهمية عن كل إصلاح تشريعي.
![]()









