بقلم نجيبة جلال
في توقيت بالغ الرمزية، وعبر تغريدة ظاهرها التمجيد وباطنها التخطيط، أعلن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية انطلاق فصل جديد من استراتيجية طهران التوسعية، وهذه المرة من بوابة القارة الإفريقية. فحين يختار علي خامنئي أن يستحضر رموز التحرر الإفريقي – نكروما، مانديلا، ماشيل، ونييريري – في منشور رسمي نشر على حسابه باللغة العربية، فذلك لا يندرج ضمن مجاملة دبلوماسية عابرة، بل هو إعلان ناعم عن دخول إيران إلى إفريقيا كـ”محرك مقاومة” وفاعل جيواستراتيجي.
بعيدا عن الخطابة، فإن القراءة الدقيقة لهذا الخطاب تكشف عن تحول نوعي في العقيدة الخارجية الإيرانية: فبعد تضييق الخناق على أذرعها التقليدية في المشرق العربي، من حزب الله في لبنان، إلى الحوثيين في اليمن، والميليشيات في سوريا، والإخوان في الأردن، تتجه طهران اليوم إلى الاستثمار في إفريقيا باعتبارها “العمق البديل”، جغرافيا وأمنيا، لما تسميه في أدبياتها بـ”محور المقاومة”.
هذا التوجه ليس وليد اللحظة، فمنذ مطلع العقد الماضي، وضعت إيران اللبنات الأولى لاختراق القارة عبر برامج “التبشير الشيعي”، ومدارس ومراكز ثقافية – دينية، والتعاون الأمني مع بعض الأنظمة الهشة، لكن الجديد اليوم هو الإعلان الصريح عن إفريقيا كـ”واجب ديني” وفضاء قابل لتصدير النموذج الثوري الإيراني، بما يحمله من أيديولوجيا وسلاح ومصالح.
لقد مهدت جولة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في يوليو/تموز 2023، والتي شملت كينيا، أوغندا، وزيمبابوي، لهذا التحول الكبير، وصفت الزيارة حينها بأنها استئناف لمشروع طهران في دول “الجنوب العالمي”، لكنها كانت في الواقع بداية تفعيل ما وصفته وكالة “تسنيم” المقربة من الحرس الثوري بـ”الذراع الطويلة” لإيران، التي لن تكتفي بتصدير السلاح، بل ستسعى إلى توجيه الضربات للمصالح الغربية والإسرائيلية من داخل العمق الإفريقي.
تواترت، خلال السنوات الماضية، تقارير أمنية حول إحباط عمليات تخريبية خطط لها عملاء إيرانيون في أوغندا، تنزانيا، وكينيا. كما أشارت مصادر استخباراتية إلى تعاون متنام بين طهران وجماعات مسلحة في الصومال لتسهيل إيصال الإمدادات إلى الحوثيين في اليمن، أما السودان، الذي كان معبرا رئيسيا للأسلحة الإيرانية إلى قطاع غزة، فقد غاب مؤقتا عن هذا المشهد بعد التقلبات السياسية الأخيرة.
في موازاة ذلك، تندرج تحركات إيران البحرية ضمن ما تسميه بـ”الجهاد البحري”، وهي عقيدة تسعى من خلالها إلى التمركز عند الممرات الاستراتيجية – من البحر الأحمر إلى خليج عدن – كجزء من مشروع احتواء الردع الغربي، وتوسيع رقعة نفوذها عبر موانئ ومراكز لوجستية على السواحل الإفريقية.
ولعل أكثر ما يثير القلق، هو سعي طهران إلى دمج الدين بالسياسة في إفريقيا، عبر التغلغل في النسيج المجتمعي لبعض الدول، مستغلة ضعف البنية المؤسساتية، والهشاشة الاقتصادية، ووجود مشاعر متنامية مناهضة للغرب، مما يخلق بيئة مثالية لإنتاج “وكلاء محليين” على شاكلة حزب الله أو الحشد الشعبي، لكن هذه المرة بنكهة إفريقية.
إن إيران، التي تواجه حصارا دوليا متزايدا، تعول اليوم على القارة السمراء لبناء “اقتصاد مقاوم” يكسر طوق العقوبات، ويغذي حلفاءها بالعتاد والدعاية، لكنها، في الوقت نفسه، تخوض سباقا غير معلن مع قوى كبرى تسعى لحماية مصالحها في إفريقيا، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إسرائيل، وفرنسا.
إن القارة التي لطالما كانت ساحة لصراعات الاستعمار القديم، مهددة اليوم بأن تتحول إلى رقعة شطرنج جديدة لصراعات النفوذ العقائدي والجيوسياسي، حيث يعاد رسم ملامح “المقاومة” خارج حدود الشرق الأوسط، وبأدوات قد تبدو مألوفة، ولكن بأقنعة أكثر نعومة وخطورة.
هل تدرك العواصم الإفريقية أن ما يبدو تعاونا تنمويا أو تضامنا نضاليا، قد يكون في حقيقته رأس جسر لاختراق عقائدي وأمني طويل الأمد؟
وهل تستعد القارة، التي دفعت أثمانا باهظة في حروب الآخرين، لأن تكون من جديد مسرحا لتصفية حسابات لا تخصها، تدار هذه المرة بأدوات الممانعة ومشاريع تصدير الثورة؟
أم أن الوعي الإفريقي الجديد، الذي بني على تضحيات رجال نكروما ومانديلا، سينتصر لسيادته ويغلق الباب أمام من يسعون لتحويل القارة إلى واجهة صراعاتهم؟
إفريقيا… إلى أين؟
1 222 زيارة , 1 زيارات اليوم