في سجل الفكر الإنساني، ثمة أسماء ارتبطت بالحقيقة، لا لأنها جسّدتها بالكامل، بل لأنها امتلكت من الصدق ما يكفي للاعتراف بأنها لم تكن دائمًا على مستوى أفكارها. جان جاك روسو، فيلسوف الأنوار، لم يكن معصومًا، لكنه كان نزيهًا مع ذاته. كتب عن الحرية والكرامة والفضيلة، لكنه فشل في أن يعيشها في بيته. ومع ذلك، لم يُخفِ عثراته، بل كتبها في الاعترافات بجرأة من لا يخشى أن يُحاسَب.
كتب قائلاً: “الإنسان يولد حرًا، ومع ذلك هو في كل مكان في الأغلال”. لم تكن الأغلال، في جوهرها، تلك التي تفرضها السلطة أو الأعراف، بل الأغلال التي نُسجت في عمق الذات، حين تعجز عن التوفيق بين النظرية والممارسة.
جان جاك روسو، الذي وضع تصورًا عبقريًا للتربية في كتاب إميل، هو نفسه الذي تخلّى عن أطفاله الخمسة. لقد خان مثاله، لكنه لم يكذب بشأن ذلك. واجه التناقض باعتراف شفاف، فصار مثاله لا في الكمال، بل في الصدق.
وإذا كانت تجربة روسو تُلهم باعتبارها لحظة مكاشفة، فإن تجارب عدد من الشخصيات العامة في مغرب اليوم تُحبط، لأنها تمثل نموذجًا للتناقض المُعاند، الذي يرفض الاعتراف، ويحوّل النفاق إلى خطاب شرعي.
نذكر هنا، من جهة السياسة، عبد الإله بنكيران، الذي بنى مجده على شعار محاربة الريع والفساد، ثم تقبّل معاشًا استثنائيًا دون حرج، وهاجم كل من ذكّره بما قاله بالأمس. ومن جهة الإعلام، توفيق بوعشرين، الصحافي الذي قدّم نفسه مدافعًا عن الكرامة والحرية والحقوق، بينما كان، وفقًا لحكم قضائي نهائي، يستغل صحافيات اشتغلن في مؤسساته الإعلامية، أكثر من خمس عشرة امرأة، بين من تقدمن بشكايات ومن رفضن الكلام خوفًا من الفضيحة أو الانتقام.
التناقض هنا لا يطال فقط السلوك، بل يضرب جوهر المشروع الذي ادّعاه صاحبه. فكيف لرجل يرفع شعار مناهضة الاستبداد، أن يمارس أقصى درجات الاستغلال النفسي والجسدي داخل مؤسسته؟ وكيف لمن ينتقد السلطة، أن يتحوّل هو نفسه إلى سلطة قمعية على أجساد نساءٍ لا حول لهن؟
الفارق بين روسو وهؤلاء أن الأول واجه نفسه وعرّف جمهوره على ضعفه، بينما الآخرون أنكروا واستكبروا وأداروا ظهورهم للحقيقة، وبدل أن يواجهوا مرآة التناقض، كسروا المرآة وهاجموا من حملها.
الخلاصة، كما يسجلها التاريخ لا البلاغات، هي أن الاعتراف فضيلة، لا علامة ضعف. وأن الكبار، ليسوا أولئك الذين لا يسقطون، بل من يعترفون حين يسقطون. فليتهم، من ساسة وإعلاميين، يقتدون بروح روسو، لا بمظهره: بأن يقرّوا بما لم يقدروا على فعله، بدل أن يموّهوا عجزهم بلغة زائفة أو خطاب مزدوج.
في زمن متخم بالمزايدات، يكون أعظم ما يمكن أن يُقدم للناس هو لحظة صدق… حتى لو كانت مؤلمة.