عندما نصفق “للحمار!!”

عندما نصفق “للحمار!!”

- ‎فيواجهة, رأي
wwwexpresstvoa e1767117884916

راديو إكسبرس

البث المباشر

اوسار أحمد

لنكن صرحاء من البداية: واحد من أخطر الأكاذيب التي نُعيد إنتاجها يوميًا في المغرب، بلا تفكير ولا إحراج، هو تمجيد “العايق”. لا نتحدث هنا عن شخص ذكي أو مجتهد أو خلاق، بل عن نموذج اجتماعي كامل نرفعه إلى مرتبة البطولة، رغم أنه في جوهره يقوم على كسر القواعد، ودهس حقوق الآخرين، وتحويل الفوضى إلى أسلوب عيش.

“فلان عايق” جملة تُقال بإعجاب، وكأنها شهادة كفاءة. لا أحد يسأل: فاش عايق ؟ وكيف؟ وعلى حساب من؟ المهم أنه “مدوزها”، “قاضي غراض”، “عرف كيفاش يدبر على راسو”. بهذه البساطة، نُسقط كل القيم، ونحوّل الانتهاك إلى ذكاء، والالتزام إلى سذاجة.
خذ أي مشهد من حياتنا اليومية، ولن تحتاج إلى كثير من البحث. في الطريق، الذي يحترم الإشارة يقف، ولي “عايق” يقتحم الصف ويكمل طريقه. في الإدارة، الذي ينتظر دوره يضيع يومه، واللي “عارف شي واحد” يقضي غرضه في دقائق. في المستشفى، في السوق، في الشغل… القاعدة واحدة: من يحترم النظام يدفع الثمن، ومن يكسره يُكافأ.

المشكل الحقيقي ليس في وجود “العايق”، فكل المجتمعات فيها متجاوزون. المشكل في نظرتنا نحن. في تلك اللحظة التي نغضب فيها من المتجاوز، ثم نهمس: “صراحة عايق”. هنا تقع الجريمة الأخلاقية. هنا نُعلن، دون وعي، أن الخلل مقبول، بل مرغوب، إذا كان “ناجحًا”.
الثقافة الشعبية المغربية لعبت دورًا مركزيًا في ترسيخ هذا المنطق. سمعنا لسنوات عبارات من قبيل: “اللي ما يعيقش ما يربحش”، “دبر على راسك”، “سير مع الرابحة” “زرب عليه ”. هذه ليست جُملًا بريئة، بل فلسفة كاملة تُقنع الفرد بأن القانون عائق، وأن النظام سذاجة، وأن النجاة فردية، حتى لو احترق الجميع.
من منظور سوسيولوجي، ما نعيشه ليس مجرد سلوكيات معزولة، بل تفكك بطيء لما يُسمّى عقد المواطنة. الدولة لا تُختزل في العلم أو النشيد أو الخطابات، بل في فكرة بسيطة: الجميع سواسية أمام القانون. حين تنهار هذه الفكرة، لا يبقى من القانون سوى شكله، ويتحول إلى اداة عاجزة عن فرض العدالة، ومجتمع لا يؤمن بها أصلًا.
الأخطر من كل هذا هو الأثر التربوي. ماذا نقول لأطفالنا حين يرون بأعينهم أن “العايق” يصل، و”ولد الناس” يتعطل؟ ماذا نزرع في وعي شاب يرى أن الاجتهاد لا يكفي، وأن الأخلاق عبء، وأن الطريق الأقصر دائمًا يمر عبر الالتفاف؟ نحن لا نربي فقط جيلاً فاقدًا للثقة في القانون، بل جيلاً ساخرًا من فكرة العدل نفسها.
والنتيجة واضحة: مجتمع مليء بالأذكياء فرديًا، لكنه فاشل جماعيًا. كل واحد “عايق” بوحدو، وكلنا عالقون معًا. طرق مسدودة، إدارات مشلولة، خدمات متدهورة، وانعدام ثقة عام. ثم نتساءل: لماذا لا نتقدم؟ لماذا لا نحترم بعضنا؟ لماذا كل شيء صعب؟
الحقيقة غير المريحة هي هذه: الشعب المغربي لا ينقصه الذكاء، ينقصه الانضباط. ينقصه الإيمان بأن احترام القواعد ليس ضعفًا، بل قوة. بأن الوقوف في الطابور ليس إذلالًا، بل اعتراف بحق الآخر. بأن القانون ليس فخًا، بل مظلة تحمي الجميع.
الدول التي نحلم بمستواها لم تصل لأن شعبها جعل “العايق” نموذجًا مُحتفى به وليس استثناء. الذكاء يُقاس بمدى احترامك للنظام، لا بقدرتك على خداعه.
ربما حان الوقت لنقوم بمراجعة قاسية مع أنفسنا. أن نتوقف عن تمجيد “العايق”، وأن نسمي الأشياء بأسمائها: كثير مما نعتبره شطارة ليس سوى أنانية مُقنّعة. وأن نعيد الاعتبار لشخص بسيط، هادئ، يحترم القانون حتى حين لا يراقبه أحد. هذا، في الحقيقة، هو المواطن الذي تُبنى به الدول.
أما “العايق”، فمهما بدا ناجحًا في لحظته، فليس سوى “هركاوي” و أحد الأسباب الخفية التي تجعلنا ندور في المكان نفسه، منذ سنوات، دون أن نتحرك خطوة حقيقية إلى الأمام.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *