راديو إكسبرس
البث المباشر
في حياة الأمم لحظات تختلط فيها التفاصيل الصغيرة بالمصائر الكبرى، وتتجاور فيها القرارات التي تبدو عابرة مع التحولات التي ترسم في صمت مسار السنوات القادمة. وفي المغرب، كما في غيره، كثيراً ما تتحرك السياسة من وراء الستار، بينما تبدو الساحة مكشوفة لمن يريد أن يرى، ومخفية عمن لا يريد أن يدرك.
وأعود هنا إلى سنة ليست بعيدة، سنة صُرفت فيها اثنا عشر مليون درهم تحت عنوان بدا في ذلك الوقت اجتماعياً، لكنه حمل منذ لحظة ميلاده رائحة لا تخطئها العين. كانت رائحة صفقة أريد لها أن تمر في هدوء، انحناءة ناعمة قبل لحظة ميلاد قانون المجلس الوطني للصحافة. كانت الشيكات توزع، والابتسامات تُرسم، والكل يعرف أو يتظاهر بأنه لا يعرف أن ما يجري ليس دعماً بقدر ما هو محاولة لشراء سكينة إعلامية قبل عبور منعطف حساس.
ولم يقل أحد يومها ما كان يجب أن يقال، ربما لأن اللحظة كانت تتطلب صمتاً، وربما لأن بعض الأصوات كان يناسبها أن تنسى. لكن الحقيقة، مهما طال عليها الزمن، تعود بوجهها الحقيقي. تلك الأموال لم تكن عملاً خيرياً، بل كانت إغراء سياسياً، صُنع بعناية، ووُضع بعناية أكبر في يد من يمكن أن يضمنوا الهدوء.
اليوم تعود القصة من جديد، ولكن بطلها ليس المال هذه المرة، بل جبهة إعلامية تتشكل، تكاد تشبه ذلك الخليط الغريب الذي يتقاطع فيه الإسلاميون مع حلفائهم التقليديين في التقدم والاشتراكية، وتطل منه جماعة العدل والإحسان بظلها الثقيل، ومعهم أصوات وجدت في الفوضى الإعلامية سبباً للبقاء.
هذه الجبهة لا تعلن نفسها، لكنها تتحرك بوضوح. لا تقول ما تريد صراحة، لكنها تجيد الإيحاء. تتحدث بلغة الحقوق، لكنها تعمل بمنطق السياسة، وتسعى إلى إسقاط مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة لا دفاعاً عن حرية، بل حفاظاً على نفوذ، أو استعادة امتياز ضاع، أو منع منظومة جديدة من أن ترى النور.
ومن حقنا أن نسأل: هل يسعى هؤلاء اليوم إلى رشوة من نوع آخر؟ ليست مالاً بالضرورة، فقد تغيرت الأدوات وتغير الزمن، ولكنها رشوة بمعنى النفوذ والثقل الرمزي والقدرة على الإمساك بتعريف الصحافة ذاتها. من هو الصحافي، ومن يحق له أن يمثل المهنة، ومن يصرف على حسابها، ومن يتحدث باسمها؟
إن معركة اليوم ليست معركة قانون بقدر ما هي معركة على روح المهنة. تماماً كما كانت اثنا عشر مليوناً محاولة لشراء لحظة من الصمت، فإن الضجيج الذي نسمعه الآن محاولة لشراء لحظة من الفوضى.
ولذلك فإن السؤال الذي حاول كثيرون دفنه يعود اليوم أكثر إلحاحاً. هل نحن أمام إعادة إنتاج للصفقة القديمة ولكن بأدوات جديدة ولغة جديدة وفاعلين جدد؟ أم أننا أمام محاولة أخيرة من تحالف يستشعر نهايته ليمسك بما تبقى من مساحة في قطاع تغيرت خرائطه ووعيه وميزان قواه؟
إن المغرب يدخل مرحلة عنوانها المكاشفة لا المساومة. وإذا كان زمن الشيكات قد مر، فإن زمن شراء الفوضى لن يمر بسهولة، فالأرض تغيرت، والمشهد تغير، ومن كان يبيع الصمت بالأمس لم يعد قادراً على شراء المستقبل اليوم.
![]()









