تخليق العمل السياسي بين أزمة السلوك واستعادة الثقة

تخليق العمل السياسي بين أزمة السلوك واستعادة الثقة

- ‎فيرأي, واجهة
65cf6dda8c357

راديو إكسبرس

البث المباشر

منير لكماني _ المانيا

تشكل الممارسات داخل الفضاءات التمثيلية مرآة دقيقة لمدى نضج الحياة السياسية وقدرتها على أداء وظائفها الحيوية. وحين تتراجع قواعد الانضباط ويختل ميزان النقاش الهادئ، لا يصبح الأمر مجرد حدث عابر، بل مؤشرا على أزمة بنيوية تمس الرموز والمعايير التي تضبط المجال العام. إن تخليق العمل السياسي ليس مطلبا أخلاقيا فقط، بل شرطا أساسيا لاستمرارية المؤسسات ولحماية شرعيتها أمام المواطنين.

الفضاء التشريعي ومعايير السلوك المؤسسي

المؤسسات التمثيلية ليست أماكن للقرار التشريعي فحسب، بل هي فضاءات رمزية تؤطر صورة الدولة لدى المجتمع. ولهذا فإن أي انزياح عن السلوك المنضبط داخلها ينعكس مباشرة على تصور المواطنين لمهام الفاعلين السياسيين ولوزن المؤسسة ذاتها.
يقتضي العمل السياسي داخل هذه الفضاءات التزاما صارما بقواعد الحوار، واحتراما متبادلا بين الأطراف، وتغليبا للغة الحجة على خطاب الانفعال. فالمؤسسة لا تُحترم فقط بقوانينها، بل أيضا بسلوك القائمين عليها، وبمدى قدرتهم على تقديم نموذج راق في النقاش العمومي.

خلل أخلاقي أم أزمة تمثيل؟

يذهب علم الاجتماع السياسي إلى أن التوترات اللفظية داخل المؤسسات ليست مجرد مظاهر انفعالية، بل تعبير عن خلل أعمق في وظيفة التمثيل. فعندما يبتعد الفاعل السياسي عن قيم المسؤولية، يتحول دور المؤسسة من فضاء للنقاش العمومي إلى مسرح للتجاذب الرمزي.
هذا التحول يتسبب في ما يسمى بـ”الشرخ التمثيلي”، حيث يتراجع الارتباط النفسي بين المواطن وممثليه، فلا يرى في المؤسسة فضاء يمثله أو يعبر عن تطلعاته، بل مجالا لإعادة إنتاج التوتر. ومع هذا الانفصال، يبدأ العزوف السياسي في التوسع، وتتراجع شرعية الفعل العمومي وانخراط المجتمع فيه.

أثر السلوك السياسي على الثقة العمومية

الثقة ليست مفهوما خطابيا، بل رأسمال مؤسسي يتكون عبر مراكمة الممارسات الإيجابية. وأي سلوك غير منضبط داخل المؤسسات يمس هذا الرأسمال مباشرة.
حين يشاهد المواطن مشاهد تشنج أو تراشق لفظي، لا يرى في الأمر خلافا عاديا، بل خللا في احترام المؤسسة. وتتغذى هذه النظرة حين يتناقض الخطاب المعلن مع الممارسة الواقعية.
من منظور علم السياسة، اتساع الفجوة بين الخطاب والفعل يعد أحد أهم أسباب تآكل الثقة العمومية، لأنه يخلق شعورا بأن الفاعل السياسي منفصل عن المعايير التي يدعو إليها المجتمع.

تخليق السياسة كمدخل لإصلاح بنيوي

تخليق العمل السياسي لا يعني فرض ميثاق سلوكي فحسب، بل إعادة بناء ثقافة مؤسسية متكاملة. ويشمل ذلك ثلاث مستويات أساسية:
1. المستوى القيمي: ترسيخ أدبيات الاحترام المتبادل، وضبط التعبير، وتجنب الانفعال، والالتزام بحدود الاختلاف.
2. المستوى المؤسسي: تطوير آليات داخلية للمساءلة، وتعزيز الأدوار التأطيرية للهيئات المكلفة بضبط الجلسات وتدبير الحوار.
3. المستوى التواصلي: تقديم خطاب يعكس رصانة المؤسسة، والابتعاد عن الاستعراض، والتركيز على مضمون السياسات لا على الأشخاص.

بهذه المستويات، يتحول التخليق من مبادرة ظرفية إلى رؤية إصلاحية تسهم في إعادة بناء الثقة بين المجتمع والمؤسسات.

نحو استعادة الفضاء العمومي

الفضاء العمومي لا ينهض فقط على القوانين، بل على العلاقة النفسية التي تجمع المواطن بمؤسساته. وهذه العلاقة لا ترمم بالخطاب، بل بالسلوك. فعندما يرى الناس نقاشا راقيا وإدارة هادئة للخلاف، ترتفع قيمة السياسة وترتفع معها شرعية المؤسسات.
وحين تخضع الممارسات المنحرفة للمساءلة، يشعر المواطن بأن القانون يطبق على الجميع، فيستعيد تدريجيا ثقته في العملية السياسية.

القيم أساس الفعل السياسي لا زينته

إن تخليق العمل السياسي ليس مسألة تجميلية ولا إجراءا شكليا، بل هو شرط بنيوي لاستمرار المؤسسة في أداء وظائفها. فالمؤسسة التي تتراجع فيها القواعد الأخلاقية تفقد بالتدريج قدرتها على التأثير، لأن الإقناع السياسي لا يقوم على النصوص وحدها، بل على السلوك الذي يمنح هذه النصوص شرعيتها.
وحين يدرك الفاعلون أن مسؤوليتهم أبعد من سن القوانين وأنهم مطالبون بتجسيد قيمة الانضباط والاحترام والاتزان، يصبح الفضاء السياسي قادرا على استعادة معناه الأصلي: خدمة الصالح العام عبر نقاش رصين لا عبر منافسة صاخبة.
إن قوة المؤسسات لا تقاس بحدة الأصوات داخلها، بل بقدرتها على أن تظل قدوة في سلوكها قبل قراراتها، وأن تحافظ على الهيبة التي تُعد أساس الثقة وركيزة الفعل الديمقراطي

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *