راديو إكسبرس
البث المباشر
عبد الله مشنون/
اخترت تناول هذا الموضوع لما تمثّله الزيارة البابوية إلى تركيا ولبنان من لحظة فارقة في مسار الحوار بين الأديان، وللمكانة الروحية والإنسانية التي يحظى بها قداسة البابا لدى العرب، مسلمين ومسيحيين على حدّ سواء. وبوصفي كاتبًا صحفيًا مقيمًا في إيطاليا، ومهتمًا بقضايا الهجرة والاسلام والتعايش، فإنني أرى في هذه الزيارة فرصة لإعادة التأكيد على قيم التسامح، وبناء الجسور بين الشعوب، وتفعيل دور المؤسسات الدينية في حماية الكرامة الإنسانية، خصوصًا في زمن تتصاعد فيه النزاعات وتنهار فيه مساحات الثقة بين الثقافات. إن كتابة هذا المقال تأتي من إيمان عميق بأن خطاب السلام ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لإنقاذ مجتمعاتنا من الانقسام، وتعزيز حضور القيم المشتركة التي تجمعنا مهما تباينت معتقداتنا.
تأتي زيارة قداسة بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر إلى تركيا ثم لبنان في لحظة عالمية شديدة الحساسية، حيث تتقاطع التوترات الدينية مع الصراعات الجيوسياسية، وتتصاعد الحاجة إلى خطاب إنساني جامع يعيد الاعتبار لقيم السلام والعدالة والمحبة والاحترام. وتكتسب هذه الجولة أهمية مضاعفة لكونها الأولى له بعد تولّيه منصبه، واختياره أن يبدأها من بلد ذي أغلبية إسلامية كتركيا، ثم ينتقل إلى لبنان الذي يُعدّ آخر معاقل التنوع المسيحي في الشرق الأوسط.
في هذه الزيارة، يتجلّى وجه الفاتيكان في صورته الدبلوماسية الهادئة، وفي رسالته الروحية العابرة للحدود. كما تشكّل الجولة لحظة تأمل عميقة حول الدور الذي يمكن للمؤسسات الدينية الكبرى أن تؤديه في عالم تمزّقه الحروب، وفي مقدمتها الحرب الإسرائيلية على غزة.
تُعتبر تركيا جغرافيا مركزية في تاريخ المسيحية، بما تضمه من مواقع ذات قيمة روحية عالية، ككنيسة مريم العذراء في إزمير، وآيا صوفيا، ومدن عديدة ارتبطت بنشوء الفكر المسيحي وتطوره. غير أن مدينة إزنيك تبقى نقطة التحوّل التاريخي الأبرز، فهي المكان الذي شهد عام 325 انعقاد مجمع نيقية الأول، الذي صاغ الركائز الأساسية للعقيدة المسيحية.
على أنقاض تلك البقايا التاريخية، التي ظهرت مجددًا منذ سنوات بعد انحسار مياه البحيرة، أقام بابا الفاتيكان ليون الرابع عشرقدّاسًا مشتركًا مع البطريرك الأرثوذكسي بارثلماوس، في سابقة روحية لم تحدث منذ 1700 عام. الحدث حمل رمزيات عميقة: وحدةٌ إيمانية تتجاوز الانقسام المذهبي، ورسالةٌ سلام تعبُر من الماضي إلى الحاضر، وتأكيدٌ على أن ذاكرة الأديان قادرة على تجاوز الجراح الطويلة.
لكن تلك اللحظة التاريخية أثارت جدلًا داخل تركيا، حيث تباينت التفسيرات بين من رأى فيها خطوة إيجابية تعزّز صورة البلاد كجسر بين الحضارات، وبين من قرأها من منظور قومي أو سياسي أو أيديولوجي، معتبرًا أنها قد تمسّ رمزية السيادة الوطنية أو تهدد مبادئ العلمانية. ومع ذلك، بقي الأثر العام للزيارة إيجابيًا، بخاصة مع إشادة البابا المتكررة بدور تركيا في الوساطة الإقليمية والحوار بين الأديان.
في لبنان، اكتسبت الزيارة بُعدًا إنسانيًا وروحيًا مضاعفًا. فإلى جانب لقاءاته مع القيادات الروحية والسياسية، حرص بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر على زيارة مرفأ بيروت، وغرس شجرة زيتون رمزًا للسلام، والصلاة أمام ضريح القديس شربل، والتوجّه مباشرة إلى الأجيال الشابة التي تشكّل أمل البلاد ومستقبله.
لبنان، بما يحمله من تاريخ طويل من التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وبما يعانيه من أزمات سياسية واقتصادية خانقة، يحتاج إلى خطاب روحاني يعيد إليه شيئًا من توازنه المفقود. وقد حاول البابا أن يقدّم ذلك، مسلطًا الضوء على ضرورة الحفاظ على التعددية و”رسالة لبنان” كما وصفها الباباوات السابقون.
رغم التحفّظ الذي يطبع عادة خطاب الفاتيكان في القضايا السياسية، إلا أن بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر تحدث خلال رحلته بوضوح لافت عن مأساة فلسطين. فتصريحاته بشأن غزة، وخاصة قوله إن “حلّ الدولتين هو السبيل الوحيد للسلام، وإن إسرائيل لا تقبل به”، شكّلت صدى دوليًا مهمًا، بخاصة في ظل استمرار الحرب وما يرافقها من سقوط مدنيين وانتهاكات موثقة.
لم يذهب البابا إلى حدّ المواجهة السياسية المباشرة، فهذا يتعارض مع النهج الدبلوماسي الهادئ الذي يتبعه الفاتيكان، لكنه كان واضحًا في رفض الأعمال العسكرية التي تستهدف المدنيين، وفي التذكير بأن السلام ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة أخلاقية وروحية لإنقاذ الإنسانية من الانزلاق نحو فوضى شاملة.
كما حرص البابا على الفصل بين الدين والاحتلال، مؤكدًا أن المسيحيين في القدس وبيت لحم وغزة يعانون كما يعاني المسلمون، وأن معاناة شعب فلسطين يجب أن تُفهم ضمن إطار حقوقي وإنساني شامل.
تحظى زيارات بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر إلى الشرق باهتمام واسع لدى المسلمين كما لدى المسيحيين العرب. فالمسلمون يرون فيها فرصة لتعزيز خطاب السلام العالمي، وإعادة التذكير بمظلومية الشعب الفلسطيني، وتعميق الحوار بين الأديان.
المسيحيون العرب ينظرون إلى البابا باعتباره ضمانة رمزية لحضورهم التاريخي في الشرق، وبخاصة في ظل ما شهدته بعض المجتمعات المسيحية من نزيف ديمغرافي وهجري.
الأقباط وغيرهم من المسيحيين الشرقيين يجدون في موقف الفاتيكان دعمًا معنويًا لقضاياهم ووجودهم الثقافي والروحي.
ترتكز الدبلوماسية الفاتيكانية على ما يُعرف بـ”القوة الناعمة”:
لغة روحية غير صدامية
رموز دينية ذات تأثير كبير
حضور عالمي في اللحظات المفصلية
قدرة على جمع الأضداد دون الدخول في تحالفات سياسية مباشرة
لكن هذه النعومة لا تعني غياب الرسائل الواضحة، إذ حملت زيارة بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر تأكيدًا على:
ضرورة تغليب منطق السلام على منطق القوة
أهمية صون التنوع الديني في الشرق
مسؤولية الدول الكبرى عن منع الحروب
ضرورة حماية المدنيين في كل النزاعات
أهمية الحوار بين المسلمين والمسيحيين وترميم الثقة التاريخية
إن زيارة بابا الفاتيكان ليون الرابع عشر إلى تركيا ولبنان ليست مجرد جولة دينية، بل هي حدث سياسي وثقافي وروحي في آن واحد. زيارة تذكّر بأن الشرق لا يزال فضاءً يمكن فيه للتعددية أن تتجدد، وللأديان أن تتعاون بدل أن تتصارع، وللقيم الإنسانية أن تنتصر ولو مؤقتًا على ضوضاء الحروب.
في عالم يتصدّع تحت وطأة التطرف والعنف والاستقطاب، تأتي هذه الجولة كرسالة تقول: إن الجسور لا تزال ممكنة، وإن الحوار ليس ترفًا، وإن صوت الروح يمكن أن يكون أقوى من ضجيج المدافع.
اللهم اجعل السلام رايةً تجمع قلوب البشر على الخير والمحبة، واحفظ الإنسانية من كل شر وفتنة.
![]()









