بقلم نجيبة جلال
في عالم السياسة والدبلوماسية، لا تنشأ القوة الناعمة بين عشية وضحاها، ولا تُختزل في الشعارات الجوفاء أو الحملات الإعلامية، بل هي نتاج تراكم تاريخي، ومؤسسات ذات شرعية، ورؤية استراتيجية تُكسبها المصداقية والتأثير العابر للحدود. هذا ما تناوله الملف التحليلي الذي أنجزته الصحفية والخبيرة المغربية شامة درشول في أسبوعية “الصحيفة“، حيث سلّط الضوء على التفاوت العميق بين المغرب والجزائر في توظيف هذا السلاح غير المرئي، لكن الفعّال. وقد استشهدت درشول برأي خبيرة ألمانية أكدت أن “القوة الناعمة الحقيقية لا تُبنى على الإكراه أو الادّعاء، بل تحتاج إلى مؤسسات ذات شرعية وتأثير فعلي في المجتمع، وهو ما لا يمكن استنساخه بقرارات سياسية ظرفية”.
غير أن الجزائر الرسمية، التي لم تستوعب جوهر هذا الطرح، بدت كمن يسير عكس المنطق. وبدل أن تؤسس قوة ناعمة من أدواتها الذاتية، استسهلت طريق التقليد، فحاولت استنساخ ما راكمه المغرب عبر قرون من الزمن، بدءًا من البعد الثقافي، وصولًا إلى البعد الديني، حيث اصطدمت بجدار الشرعية. المغرب، بحكم تاريخه، يُجسد نموذجًا لقوة ناعمة أصيلة تستند إلى إرث حضاري متين، بينما اختارت الجزائر الانشغال بهوس المقارنة والتبخيس، محاولةً تقويض ما لا تملكه بدل أن تبني ما تفتقده.
إمارة المؤمنين، باعتبارها مؤسسة دينية وسياسية متجذرة، تمثل أحد أركان القوة الناعمة المغربية، ليس فقط لكونها تضمن الاستقرار الداخلي، بل لأنها جعلت من المغرب مرجعًا إقليميًا في تدبير الحقل الديني، بفضل إشعاعه في إفريقيا وأوروبا عبر مؤسسات مثل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة، الذي بات قبلة للطلبة من مختلف بقاع العالم. أما الجزائر، حين حاولت محاكاة هذا النموذج، فقد وجدت نفسها أمام معضلة الشرعية، إذ لا يُفرض النفوذ الديني بقرارات إدارية أو مبادرات موسمية. فالتأثير في المجال الديني، كما هو الحال في المغرب، يتطلب إرثًا ممتدًا ومؤسسة تحظى بإجماع داخلي وتقدير خارجي، وهو ما تفتقر إليه الجزائر، حيث بقيت محاولاتها محلية الصدى، غير قادرة على اختراق الفضاءات الإقليمية أو الدولية.
أما على المستوى الثقافي، فقد استطاع المغرب أن يفرض بصمته عالميًا، عبر السينما، والفن، والموسيقى، والمطبخ، وهي عناصر أضحت جزءًا من الهوية الثقافية العالمية. على النقيض، دخلت الجزائر هذا المجال متأخرة، محاوِلةً تقليد التجربة المغربية دون امتلاك أدوات النجاح. فالقوة الناعمة ليست مجرد مهرجانات أو حملات ترويجية، بل تحتاج إلى عمق ثقافي حقيقي واستثمارات طويلة الأمد، وهو ما جعل المحاولات الجزائرية أشبه بارتداء ثوب فضفاض لا يناسب مقاسها.
ما كشفته شامة درشول في تحليلها يتجاوز الاختلاف في الأساليب، ليصل إلى جوهر المسألة: المغرب يستند إلى شرعية تاريخية متجذرة، بينما تحاول الجزائر تعويض هذا النقص عبر محاكاة قوالب جاهزة، دون امتلاك الأسس التي تضمن نجاحها. فالقوة الناعمة ليست وسيلة دعائية ظرفية، بل منظومة تتطلب الصدقية، والشرعية، والقدرة على التأثير طويل الأمد. المغرب استوعب هذه القاعدة منذ زمن، فأسس قوته الناعمة على مرتكزات صلبة جعلته فاعلًا إقليميًا ودوليًا، بينما ما زالت الجزائر تبحث عن هوية لقوة ناعمة تفتقر إلى الأصالة، ظنًا منها أن النفوذ يُشترى أو يُستنسخ، بينما هو يُكتسب بالممارسة الرشيدة والتراكم التاريخي.
1 45 زيارة , 1 زيارات اليوم