سوريا بين الخوف والأمل

سوريا بين الخوف والأمل

- ‎فيمقالات رأي دولية, واجهة
Barak Barfi

باراك بارفي : زميل أبحاث سابق في مؤسسة “نيو أميركا” وزميل زائر سابق في معهد “بروكينغز”

كما كان الألمان خلال أزمة التضخم المفرط التي عصفت بجمهورية فايمار قبل قرن من الزمان، نادرا ما يغادر السوريون منازلهم اليوم من دون حمل رزم سميكة من النقود، ومع استمرار التوترات الطائفية – التي طالما كمنت تحت حكم الأقلية العلوية – في تأجيج عدم الاستقرار، تحدد أجهزة الصراف الآلي سقف السحب بنحو 40 دولارا أسبوعيا، هذا إذا كانت تعمل أصلا.

إعلان يمكن النقر عليه

بعد ستة أشهر من الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، التي أنهت حربا أهلية دموية استمرت 13 عاما، لا يزال السوريون يكافحون من أجل البقاء يوما بيوم، وعلى الرغم من المشاق الهائلة، لا يزال كثيرون يتشبثون بالأمل في أن تعود الحياة إلى قدر من الطبيعية، لكن كل أسبوع يأتي بمصاعب جديدة تكذب هذا الأمل، ومؤخرا، بوصول إسرائيل لاستخدام الأجواء السورية لمهاجمة إيران، وضع السوريون في مأزق يفضلون تجنبه.

في ثقافة تقدس فيها الضيافة، لم يعد معظم السوريين قادرين على تقديم أكثر من فنجان قهوة واحد للزائر، وتواجه البلاد جفافا شديدا – أسوأ من ذلك الذي يربط غالبا بانتفاضة عام 2011 – يهدد الآن 75% من محاصيل القمح، ما يقوض إمكانية الحصول على الخبز ويزيد من انعدام الأمن الغذائي.

قلة من السوريين يتوقون لعودة الأسد، لكن كثيرين يشككون في خلفه، أحمد الشرع، فالشرع، الذي كان قائدا سابقا في تنظيم القاعدة، حكم محافظة إدلب الريفية لعدة سنوات، وفرض خلالها نظاما صارما من الشريعة السنية، ورغم أنه خفف من مواقفه منذ ذلك الحين، إلا أنه لا يزال غامضا مثل الأسد المثقف المتعلم في الغرب، الذي وعد بالإصلاح وانتهى به المطاف كأحد أسوأ مجرمي الحرب منذ الحرب العالمية الثانية.

مثل سلفه، يحكم الشرع بالمراسيم، مع شبه انعدام للشفافية، مما يدفع كثيرين من السوريين للخوف من أنهم استبدلوا طاغية بآخر، وديكتاتورية علمانية بأخرى إسلامية، كما أن ميول الشرع الأيديولوجية وأولوياته الاقتصادية لا تزال غير واضحة، فمنتقدوه يهاجمونه بسبب ماضيه الجهادي، بينما يشكك رفاقه السابقون في العراق في مدى حماسته الدينية اليوم.

ومهما كانت أجندة الشرع، فإن الانقسامات الطائفية لا تزال تعرقل أي عمل حكومي فعال، إذ يرفض الدروز في الجنوب والعلويون في معقل الأسد الساحلي الاعتراف بالحكومة الجديدة، وقال لي الزعيم الروحي للدروز، حكمت الهجري، واصفا الشرع وحلفاءه بـ”المنافقين” – وهو مصطلح ديني ثقيل يشير إلى من رفضوا رسالة النبي محمد، وعندما سألته إن كان يدعم الدولة الفيدرالية، أجاب بأنه يعارض المركزية، وفي الواقع، ما يريده هو وأبناء طائفته هو حكومة مركزية ضعيفة غير قادرة على فرض سلطتها على مناطقهم النائية.

أما العلويون، فلهم مشكلة مختلفة، فباعتبارهم الأقلية الحاكمة السابقة في سوريا، لا يشبهون كثيرا النخبة السنية التي أطاح بها الأمريكيون في العراق المجاور، وفي حين أن السنة يشكلون الغالبية في العالم العربي والإسلامي، فإن سنة العراق رأوا أنهم الأحق بالحكم على الأغلبية الشيعية وطالبوا باستعادة مكانتهم.

لكن علويي سوريا لا يمكنهم تبني تطلعات مشابهة، ورغم ذلك، لم يمنعهم هذا من محاولة إطلاق تمرد، على غرار ما فعله سنة العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، إلا أن العلويين أقلية أصغر بكثير من سنة العراق، وتاريخهم المتشظي يجعل من الصعب توحيد صفوفهم.

الاشتباكات الأخيرة بين الحكومة وهذه المجموعات الطائفية أقلقت السوريين وزعزعت الثقة العامة في النظام الجديد، ومع ذلك، يحظى الشرع بدعم أغلب السنة العرب، فالمسلمون المتدينون يدعمونه لأن سقوط حزب البعث “الملحد” – كما يرونه – سمح للدين بالعودة إلى الحياة العامة، ويشيد به آخرون بسبب خفضه للأسعار، رغم أن الأدلة على قدرته الفعلية على تحريك الأسواق محدودة، بعكس ما كان يحدث أحيانا مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

لطالما كانت معاداة أمريكا وعداء إسرائيل من الأعمدة الأساسية في عقيدة البعث الأسدية، فتبنى الأسد ووالده هذا النهج المتشدد لصرف النظر عن إخفاقاتهم الداخلية وحكمهم القائم على الأقلية،في عهدهم، كانت سوريا أول من يدين الهجمات الإسرائيلية على إيران، وتدعم من يعادي إسرائيل ماديا ومعنويا، أما اليوم، فقد أصبح السوريون أكثر انعزالا، وأكثر انشغالا بجراحهم الداخلية من أحداث المنطقة، ورغم أن إسرائيل زادت من تدخلها في الأراضي السورية منذ سقوط الأسد، فإن كثيرين من السوريين يفضلون علاقات جوار طبيعية معها.

في مجتمع يعاني من الفقر والندرة، الشيء الوحيد الذي لا ينقص السوريين هو الأمل – السلعة الوحيدة التي لا تشترى، ولا تفرض عليها عقوبات دولية، “من دون الأمل، لا يمكننا العيش”، قال لي رجل في منتصف العمر بينما كان يتأمل ما إذا كان سينفق مدخراته القليلة على حذاء رياضي جديد لأطفاله أو لإصلاح الأسلاك التالفة في شقته.

يواجه السوريون الكثير من هذه المفاضلات القاسية، وما يفتقدونه حقا هو تلك المفاجآت السعيدة النادرة، مثل قرار ترامب غير المتوقع بتخفيف العقوبات الأمريكية، والذي جعل الكثيرين يتوقعون تكرار مثل هذه “الصدف”، “إنه الله من زرع حب سوريا في قلب ترامب”، قال لي رجل بثقة وهو يحمل كيسا من الطماطم المتعفنة التي اشتراها بسعر مخفض.

وبحسب المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توم باراك، فإن قرار الإدارة الأمريكية برفع بعض العقوبات هدف إلى “إغراق المشهد بالأمل”، لكن ما يأمله السوريون حقا هو أن يغمرهم الأمريكيون برؤوس الأموال والاستثمارات، ليجنبهم الاضطرار للاختيار بين الاحتياجات الوجودية والراحة الأساسية، ولتمكينهم – على الأقل – من شراء خضروات طازجة بدلا من الفاسدة.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *