راديو إكسبرس
البث المباشر
مارتن بارون : الرئيس التنفيذي السابق للتحرير في صحيفة واشنطن بوست.
تضع الضغوط السياسية، وتحديات الملكية، وصعود الذكاء الاصطناعي، والقيود الاقتصادية مستقبل حرية الصحافة على المحك – ولا يظهر هذا التهديد بوضوح أكبر مما هو عليه في الولايات المتحدة، حيث تتقاطع هذه العوامل لتغذي القلق المتزايد بشأن مصير مؤسسة لطالما كانت ركيزة أساسية للديمقراطيات حول العالم. وفي المؤتمر العالمي للمعهد الدولي للصحافة هذا العام، أجرت راشيل دانا، نائبة مدير التحرير في “بروجيكت سنديكيت”، حواراً مع مارتن بارون، الرئيس التنفيذي السابق للتحرير في صحيفة واشنطن بوست، حول واقع الصحافة اليوم ومستقبلها.
بروجيكت سنديكيت: قلتَ إن مهمة الصحافة الأساسية هي محاسبة المؤسسات ذات النفوذ. في ظل المناخ الحالي، حيث يخشى مالكو وسائل الإعلام – خصوصاً في الولايات المتحدة – من الانتقام السياسي، كيف يمكن الحفاظ على الاستقلالية التحريرية؟
مارتن بارون: يجب على الصحافيين أن يتمسكوا باستقلاليتهم التحريرية. هذه هي النقطة الأولى: ألا يتنازلوا عن شيء، وأن يوضحوا أن وظيفتهم هي الإبلاغ عمّا يحدث – ما يفعله الحكومة، وما تقوم به أقوى المؤسسات والأفراد في بلدهم، إيجاباً وسلباً. جوهر مهمتنا هو محاسبة أصحاب السلطة، والإصغاء للذين لا يجدون من يسمعهم. البديل هو أن نصبح مجرد كتبة أو دعاة.
كان جيمس ماديسون، وهو من الآباء المؤسسين والداعي الرئيسي للدستور الأمريكي، يتحدث عن أهمية “فحص” الشخصيات العامة وإجراءات الحكومة. وأنا أركز على كلمة “فحص”، لأنها تعني التحقيق والتدقيق والتقييم – أي عكس النسخ الآلي والدعاية. لقد أراد مؤسسو أمريكا وجود رقابة على السلطة لمنع الفساد وإساءة استخدام القوة، ويجب علينا أن نرتقي إلى مستوى تلك المهمة.
لكنّ الملكية تظل نقطة ضعف في وسائل الإعلام. لا يوجد نموذج ملكية مثالي، فجميعها يأتي بضغوط، خصوصاً حين يكون للمالكين مصالح تجارية أخرى. وهذه الضغوط ازدادت منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هذا العام، إذ أصبح مستعداً ومتحمساً لاستهداف تلك المصالح. المالكون الذين يرضخون يقدمون خدمة سيئة للصحافيين الذين يعملون لديهم وللديمقراطية نفسها. هدفهم الأول يجب أن يكون الدفاع عن الحقوق التي مكّنت مؤسساتهم الإعلامية من الوجود أساساً.
بروجيكت سنديكيت: ذكرتَ أنه لا يوجد نموذج ملكية مثالي، وبالنظر إلى تجربتك بعد شراء مؤسس “أمازون” جيف بيزوس لـ واشنطن بوست، فأنت تدرك ذلك جيداً. لكن هل هناك نماذج أخرى؟ هل يجب أن تكون وسائل الإعلام مدفوعة بالربح؟ أم ينبغي أن تكون أقرب إلى مرفق عام؟
بارون: لم أرَ شيئاً واعداً بما يكفي. تحدّث جوزيف ستيغليتز في المؤتمر العالمي للمعهد الدولي للصحافة عن إمكانية تمويل حكومي، لكنني أعتبر ذلك فخاً كبيراً. فقد تلقّى الإعلام العمومي في الولايات المتحدة تمويلاً حكومياً، واستغلّ ترامب ذلك لمعاقبتهم. ترامب والمسؤولون المتحالفون معه سيستخدمون التمويل الحكومي كأداة ضغط، بينما نحتاج بالعكس إلى إزالة مصادر الضغط المحتملة حتى نتمكن من العمل باستقلالية. وهذا يتطلب إيجاد طريقة للاكتفاء الذاتي، سواء كمنظمة غير ربحية أو كوسيلة إعلامية تجارية.
كثير من المؤسسات الإعلامية المستقلة حول العالم، التي تعمل في بيئات صعبة، كانت تتلقى دعماً من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). والآن بعد إغلاق الوكالة، توقفت هذه المساعدات، ما تسبب في أزمة كبيرة لها. وهناك مؤسسات ممولة من جهات خيرية، لكن هذا التمويل بدأ يجف أيضاً، خصوصاً لوسائل الإعلام التي تعمل في المنفى أو في دول مثل السلفادور وفنزويلا وميانمار.
تخيل لو أن المؤسسات الإعلامية الأمريكية اعتمدت على التمويل الحكومي. في هذه الحالة، سيصر ترامب على أن تلتزم بالمعايير التي يضعها، تماماً كما يفعل مع الجامعات والمدارس. ومعياره للإعلام هو أن يكون ذراعاً دعائية له. فهو لا يريد صحافة حرة ومستقلة؛ والصحافة “الشرعية” بالنسبة له هي فقط تلك التي تكرر كلامه حرفياً.
بروجيكت سنديكيت: بناءً على تجربتك في قيادة واشنطن بوست خلال الولاية الأولى لترامب، ماذا ترى أن الصحافة نجحت فيه، وماذا أخفقت في تغطيته؟ وكيف تقيّم التغطية الحالية لولايته الثانية؟
بارون: بشكل عام، قامت الصحافة بعمل جيد للغاية، سواء خلال ولايته الأولى أو الآن. لقد عرفنا الكثير مما كان يجري داخل إدارته الأولى، وعرفنا الجزء الأكبر منه في حينه، ونعرف اليوم أكثر. والأمر نفسه يتكرر اليوم: كل يوم هناك تقرير جديد يكشف شيئاً عن عمل هذه الإدارة.
الصحافيون الذين يعملون في الخطوط الأمامية، ومعهم المحررون، ملتزمون بمحاسبة الحكومة، ومعرفة ما الذي تقوم به فعلاً، ومن يؤثر فيها، وكيف تؤثر سياساتها على الناس. وأنا أكنّ لهم تقديراً عميقاً.
لكن الإخفاق الحقيقي في الولاية الأولى لترامب حدث قبل أن يصبح مرشحاً. لم نفهم أمريكا بما فيه الكفاية. لم نقضِ وقتاً كافياً في الاستماع إلى الناس في مختلف أنحاء البلاد وتفسير مظالمهم للآخرين.
ما زلنا لا نفعل ذلك بالقدر الكافي. يجب على الصحافة أن تكون جسراً بين المجتمعات، وأن تساعد على فهم ما يمر به الآخرون. وهذا يتطلب تغطية لا تحمل ذرة ازدراء أو استعلاء، بل ترتكز على التعاطف الحقيقي.
علينا أيضاً أن نتذكر أن معظم الناس لا يقضون أيامهم في التفكير بالسياسة أو الديمقراطية، بل في كسب رزقهم، وضمان تعليم جيد لأطفالهم، والحفاظ على رعاية صحية ملائمة. علينا أن نفهم لماذا يشعرون بأن هذه الأمور مهددة.
بروجيكت سنديكيت: كيف ينبغي للصحافيين تغطية القادة الشعبويين الذين يسعون إلى تجريد الإعلام من الشرعية؟ وكيف يمكن الالتزام بالحياد عندما يكذب أحد الطرفين بشكل واضح؟
بارون: كنت دائماً مؤيداً لمفهوم “الموضوعية” في الصحافة، رغم أنه يثير قلق البعض. لكنني أعتقد أنه أُسيء فهمه. ما أعنيه بالموضوعية هو أن يبدأ الصحافي عمله وهو يدرك أنه لا يعرف كل شيء. ولهذا السبب نُجري التحقيقات. فالهدف هو تعلم ما لا نعرفه.
الموضوعية تعني التواضع، والاعتراف بما نجهله، والاستعداد للتعلم. لكنها لا تعني تقديم “رأيين متساويين” دائماً. إذا كانت الأدلة تميل إلى اتجاه واحد، فيجب أن نقول ذلك بدلاً من الادعاء بأن الحقيقة 50-50. ولا يمكننا القول الحقيقة إلا بعد تحقيق دقيق.
“الحقيقة” كلمة كبيرة، لذا أتردد في استخدامها. الهدف هو الاقتراب قدر الإمكان من الواقع وفهم الحقائق. نحن ننظر إلى العالم من ثقب مفتاح؛ نرى القليل فقط، لكن أحياناً نستطيع دفع الباب قليلاً لرؤية ما هو أكبر، وأحياناً ننجح في فتحه بالكامل.
بروجيكت سنديكيت: مع صعود المؤثرين وصنّاع المحتوى… ما تأثير ذلك على مستقبل الصحافة؟
بارون: لست متمسكاً بالطرق التقليدية. التكنولوجيا غيّرت طريقة استهلاك الناس للمعلومات، وبالتالي تغيّر طريقة إيصالها. لقد خلق ذلك نظاماً كاملاً من المؤثرين وصنّاع المحتوى واليوتيوبرز والبودكاست. المبدأ الأهم للجميع هو “التحقق”. هل المعلومات دقيقة؟ أم مضللة؟
تبادل المعلومات غير الموثقة هو تصرّف غير مسؤول. يجب الاعتماد على مصادر أثبتت مصداقيتها. ولاحظ أنه عندما تقع كارثة طبيعية، يتجه الناس فوراً نحو وسائل الإعلام التقليدية للحصول على المعلومات.
بروجيكت سنديكيت: ماذا عن الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ ما مخاطره وفرصه؟
بارون: من السهل دائماً أن يبدو المرء أكثر حكمة حين يقول إن كل شيء سيئ. الذكاء الاصطناعي أداة قوية للغاية، ويمكن أن يفيد الصحافة كثيراً، كتحليل البيانات الهائلة، وتحديد الأسلحة في الضربات الجوية، وكشف ما جرى في مناطق النزاع.
لكن مخاطره هائلة. فهو يسهل تزوير الصور والفيديو والصوت. يمكنك سماع تسجيل مقلّد تماماً لصوت شخص ما. وقد يصدق الناس ذلك. أو قد يصلون إلى مرحلة يفقدون فيها القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف. وهذا تهديد خطير للديمقراطية.
بروجيكت سنديكيت: ما الإصلاحات الضرورية لحماية حرية الصحافة؟
بارون: يجب التأكيد أن حرية التعبير ليست حكراً على الصحافة. إنها حق للجميع. كثير من التنفيذيين في الشركات أصبحوا يخشون الكلام. نحن بحاجة إلى تحالف واسع يدافع عن حرية التعبير.
لا يزال لدينا قضاة يدافعون عن هذه الحقوق، وهذا ما يجب أن تطمح إليه الدول: حماية دستورية لحرية التعبير، وقضاء مستقل، وحكومات تحترم ذلك.
بروجيكت سنديكيت: ما الدروس التي يمكن أن تستفيد منها الديمقراطيات الناشئة؟
بارون: لا يمكنك إعلان نفسك ديمقراطية ثم التوقف. المؤسسات هي التي تحمي الديمقراطية، وترامب يحاول هدمها. لكنها لا تزال موجودة، ولا تزال تقاوم. وهذا هو الدرس: حماية المؤسسات استقلاليتها، وعدم اعتبارها أموراً مسلمًا بها.
بروجيكت سنديكيت: كثيرون يحمّلون الصحافة مسؤولية الأزمات ويقولون إنها فشلت. هل هذا نقد عادل؟
بارون: معظم هذه الانتقادات تأتي من أشخاص يدّعون أن الصحافة غير مؤثرة، ثم يلومونها على النتائج! في 2016 قالوا إننا لم نكشف ما يكفي عن ترامب، رغم أننا نشرنا سلسلة تحقيقات كاملة عنه تحولت لاحقاً إلى كتاب Trump Revealed. كثير من الناس لم يكونوا يقرؤون أو لم يعتبروا تلك الحقائق مهمة حينها.
بروجيكت سنديكيت: وكيف يمكن جذب الجمهور، خصوصاً الشباب؟
بارون: لا أعتقد أننا نتواصل بالطريقة التي يريد بها الناس تلقي المعلومات. الناس يقرأون أقل، ويستهلكون المحتوى صوتياً وبصرياً. على الصحافيين أن يتعلموا إنتاج الفيديوهات القصيرة. معظم الناس لن يقرؤوا قصة من عشرة آلاف كلمة، لكنهم قد يشاهدون دقيقة واحدة.
![]()







