المغرب بين سرعتين: النمو الوطني والتفاوت الجهوي، واقع يحتاج إلى رؤية شجاعة

المغرب بين سرعتين: النمو الوطني والتفاوت الجهوي، واقع يحتاج إلى رؤية شجاعة

- ‎فيمجتمع, واجهة
Capture decran 2025 09 02 121537

راديو إكسبرس

البث المباشر

 

نجيبة جلال /

لقد أكد جلالة الملك محمد السادس في خطابه أن المغرب اليوم يسير بسرعتين مختلفتين، تصف واقعاً اقتصادياً واجتماعياً لا يمكن تجاهله، وهو واقع تتأكد تفاصيله في معطيات المندوبية السامية للتخطيط لحسابات 2023. فبينما يظهر النمو الوطني بمعدل 3,7٪ على الورق، تكشف الحسابات الجهوية عن تباين هائل بين الجهات، ما يجعل المغرب أمام تحدٍ مزدوج: الحفاظ على معدلات نمو محترمة على المستوى الكلي، وفي الوقت نفسه معالجة الفجوات العميقة التي تهدد التماسك الاجتماعي ومستقبل التنمية المستدامة.

الجهات التي حققت معدلات نمو عالية ليست مجرد أرقام على الورق، بل مثال على ما يمكن أن يحدث حين تتوفر رؤية استثمارية واضحة وتنويع اقتصادي. الداخلة–وادي الذهب سجلت نموًا بنسبة 10,1٪ مدفوعًا بالاستثمارات في الصيد البحري والأشغال العمومية، وفاس–مكناس 8,9٪ نتيجة الأداء القوي للفلاحة والخدمات، ومراكش–آسفي 6,3٪ مدفوعة بانتعاش السياحة والإيواء والمطاعم. هذه الجهات أظهرت قدرة على تحويل الاستثمارات إلى نمو ملموس وفرص حقيقية للمواطنين.

لكن، إذا نظرنا إلى الجهات الأخرى، يظهر التناقض بوضوح صارخ. بني ملال–خنيفرة سجلت انكماشًا قدره 1,3٪، والجهة الشرقية 1٪، بسبب هشاشة القاعدة الإنتاجية واعتمادها شبه الكامل على القطاع الفلاحي وتقلباته المناخية. هذا الواقع يطرح تساؤلاً جوهريًا: كيف يمكن لمواطنين في جهة تعتمد على الموارد الطبيعية أن يعيشوا على نفس مستوى من الفرص الاقتصادية مثل مواطنين في جهات صناعية أو سياحية متقدمة؟

التفاوت لا يقتصر على وتيرة النمو، بل يتجاوز ذلك ليطال نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يصل إلى 89.533 درهم في الداخلة–وادي الذهب مقابل 25.324 درهم فقط في درعة–تافيلالت، أي أكثر من ثلاثة أضعاف. هذه الفجوات الكبرى في الدخل تعكس تركز الثروة في ثلاثة محاور اقتصادية: الدار البيضاء–سطات، الرباط–سلا–القنيطرة، وطنجة–تطوان–الحسيمة، التي تسيطر على 58,5٪ من الناتج الداخلي الإجمالي، بينما يظل معظم المغرب خلف هذا الخط الاقتصادي، ينتظر فرصاً متكافئة للمساهمة في التنمية.

التركيب القطاعي يزيد المشهد تعقيدًا. جهات تعتمد بشكل كبير على القطاع الأولي، مثل فاس–مكناس ودرعة–تافيلالت وسوس–ماسة والداخلة–وادي الذهب، تصبح رهينة لمخاطر المناخ والجفاف وتقلب الموارد المائية، بينما يتركز قلب الصناعة والخدمات في محاور محدودة. الطلب الداخلي يعكس هذا التركز: خمس جهات تستحوذ على ثلاثة أرباع إنفاق الأسر، والدار البيضاء–سطات وحدها تمثل ربع الاستهلاك الوطني. هذا الواقع يوضح أن الأسواق المحلية في العديد من الجهات تفتقر إلى الحيوية، وأن فرص العمل والخدمات العامة غير متكافئة.

من هنا، تتضح الحقيقة المرة: النمو الوطني ليس مشكلة، بل نوعيته وتوزيعه. معدلات “مقبولة” على المستوى الوطني قد تخفي هشاشة بنيوية وفوارق اجتماعية تهدد التماسك الاجتماعي على المدى الطويل. المغرب بحاجة اليوم إلى سياسات ترابية شجاعة، تعيد توجيه الاستثمارات العامة والخاصة وفق مؤشرات الأثر الجهوي، وتدعم التنويع الاقتصادي في الجهات المتأخرة، من فلاحة ذكية مائياً، وصناعات صغيرة، إلى خدمات ذات قيمة مضافة، لضمان أن كل جهة لديها القدرة على المساهمة الفعلية في النمو الوطني.

التحدي يتجاوز الاقتصاد ويصل إلى البنية الاجتماعية: استمرار تركيز النشاط الاقتصادي في محورين صناعيين رئيسيين قد يؤدي إلى تعميق التفاوتات الجهوية، وخلق شعور بالإقصاء لدى مناطق كاملة، ما ينعكس على الاستقرار الاجتماعي والثقة في الدولة. النموذج التنموي الجديد، الذي يراهن على العدالة المجالية، ليس خياراً بل ضرورة، لضمان أن يسير المغرب بسرعتين متوازيتين، لا متناقضتين، وأن تتحول الفوارق من تهديد إلى فرصة للابتكار والتنمية المتكاملة.

في النهاية، المغرب أمام اختبار حقيقي لقدرة الدولة والمجتمع المدني على تحويل الأرقام الرسمية إلى واقع ملموس، يضمن عدالة مجالية حقيقية وتوازناً اقتصادياً شاملاً، ويضع كل الجهات على سكة التنمية المستدامة. فقط بهذا المنهج يمكن للمغرب أن يتحول من بلد “بنمو مزدوج السرعة” إلى نموذج للتنمية المتوازنة، حيث يشعر كل مواطن بأن جهده ومكانه في الوطن يعكس فرصته الحقيقية في التقدم والازدهار.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *