نجيبة جلال/
منذ بدأت أبسط الحكاية كما عاشها الشرفاء في هذا البلد، حكاية النمس الذي نخر الجدار من الداخل، وحين قررت أن أفتح ملفات إلياس العماري،و أن أكشف الستار عن بعض خباياه ، مستندة إلى تسريبات الدكتور مصطفى عزيز، توالت التحذيرات كما تتوالى الإنذارات قبل العاصفة. مكالمات، رسائل، همسات من أصدقاء ومعارف، كلهم يرددون على مسامعي: “إياك والنمس… احذري من العرّاب”.
توالت عليّ المكالمات والرسائل والهمسات، كلّها تعزف نغمة واحدة: “احذري… لا تقتربي من العرّاب”.
هو من نحت لقبه بنفسه—النمس. هو من سوّق لنفسه كعرّاب، وخيطه بالغموض، ثم جلس يتأمل كيف يبتلع الحمقى طُعم الهالة. كم من صديق صار تابعًا، وكم من مناضل استحال دميةً في يد خيال سياسي مشوش، صدّق أنه فوق المحاسبة، فوق النقد، وفوق صوت الوطن
لكن، ومنذ متى كان “عرّاب”يختبئ وراء الألقاب؟ ومنذ متى كان الغموض جواز مرور إلى قدسية لا تُمس؟
الحقيقة ببساطة:
لم يكن إلياس إلا مشروعًا للعب في الظلال، رجلًا يُتقن الحفر في الخفاء أكثر مما يُجيد البناء في العلن.
لفظته الساحة السياسية والوطنية حين تبيّن أنه كان يُتقن رسم سرديات التشهير الموجهة ضد رموز الوطن ومسؤوليه، في الخفاء طبعًا، وعبر خونة نزعوا جلودهم الوطنية وأكلوا الغلّة وسبّوا الملّة.
كان يبيع تزكية الانتخابات كمن يبيع التمر في سوق الغبار، قبل أن يلفظه من كانوا حوله كما تُلفظ النواة المرّة.
أما الهالة التي أحاط بها نفسه، فهي من صُنعه وحده: ألقاب من قبيل “النمس” و”العرّاب”، وأسطورة رجل لا يُقهر، غذّاها من صدّقوه، أو استعملوه، أو خافوا من ردّ فعله.
ولعلّي لا أنسى مشهدًا عبثيًا علق في ذاكرتي—يوم جلس إلياس في أحد الحانات، يُحرّض صحفيًا ضد مسؤول وطني، معتقدًا أن حفنة من الدراهم تكفي لشراء قلم.
وحين باغته الصحفي النبيل الراحل جمال براوي، أراد أن يتدارك الموقف، فسحب من جيبه ألفي درهم و الفاتورة لم تكن سوى مئتي درهم، لا عن كرم، بل عن فزع.
هكذا تُدار الحروب الصغيرة… بهشاشة.
أما جيراندو، فذاك فصل تافه من رواية رديئة.
صوتٌ أجوف، لا يعبر إلا عن خيبة رجل أدار ظهره لأمه قبل أن يدير ظهره لوطنه.
استُعمل كدمية رقمية، ثم صدّق الدور، فراح ينهق في كل اتجاه، معتقدًا أنه يُفزع من في الجبال.
لكنني، وأنا أكتب، لا أخشى نباح النموس، ولا سُمّ العرّابين.
فإن كنتُ في أعينهم “نِمسا”، فليعلموا أنني لبؤة من لبؤات الأطلس، لا تنحني للعواصف، ولا تبيع المبدأ بثمنٍ بخس.
أنا ابنة المسيرة، من تربّت على أن الكرامة لا تُقاس بعدد التهديدات، بل بقدرتك على قول الحقيقة حين يصمت الآخرون.
جئت من هذا البلد، وعنه أكتب، لا لأنني أبحث عن عداء، بل لأنني أؤمن أن الوطن لا يُصان إلا بأصوات لا تُشترى.
كتبتُ لأجل كرامةٍ أريدها لأطفالي، لا أقبل أن تُهدر في المزادات، ولا أن تُختزل في صور زائفة لرجل لفظه التاريخ قبل أن ينطفئ صوته.