اوسار أحمد/
في زاوية صامتة من شارع محمد الديوري بالقنيطرة، كان رجل إفريقي يجرّ خطواته بصعوبة. جسده منهك، رجله اليمنى شبه معطلة، عيناه شاردتان. بجانبه، تسير طفلته الصغيرة، بثوب متّسخ، حافية القدمين، تمسك يده بقوة كأنها تقول له: لا تسقط.
المشهد كان قاسيًا. الناس مرّوا، بعضهم نظر، آخرون أسرعوا خطاهم. لكن شخصًا واحدًا توقف. رجل سلطة كان في جولة ميدانية حين لمح الطفلة. لم يسأل عن هويتهما. لم يستدعِ دورية أمن. اقترب بهدوء، تحدث مع الرجل، ثم مدّ يده وساعده على الوقوف.
في تلك اللحظة، باشا القنيطرة لم يكن يمثل السلطة فقط، بل إنسانًا رأى معاناة حقيقية في الشارع. لم يكتفِ بالملاحظة. قاد بنفسه الرجل وطفلته إلى قائد ملحقة إدارية مجاورة، كان يشرف على حملة لتحرير الملك العمومي في محيطه الترابي.
القائد استقبلهم، أوقف الحملة مؤقتًا، أمسك هاتفه، واتصل بمركز لإيواء المشردين بحي الساكنية. شرح الحالة. طلب الاستعجال. لم تمضِ دقائق حتى تم تأمين مكان إيواء مؤقت للرجل وابنته. الهدف كان واضحًا: حماية الطفلة أولًا، علاج الأب إن أمكن، ثم دراسة الوضع القانوني والاجتماعي لتقديم حل واقعي.
في الأثناء، أعطى القائد تعليماته لعون سلطة بمرافقة الرجل وطفلته شخصيًا. طلب منه أيضًا توفير وجبة طعام فورية. البنت كانت جائعة. لم تبكِ، لم تطلب، لكن نظرتها كانت تقول كل شيء. وجبة بسيطة، قطعة خبز وبعض الطعام، كانت كافية لتعيد لها القليل من الطمأنينة.
عون السلطة ركب السيارة معهما. لم يتحدث كثيرًا. راقب الطفلة وهي تأكل، وساعد الرجل على النزول من السيارة عند المركز. أتمّ مهمته كما يجب. من دون أوامر مكتوبة، ولا صور للمنشورات.
المارة الذين تابعوا المشهد تأثروا. أحدهم قال إن هذا النوع من التصرفات يعيد الثقة في مؤسسات الدولة. امرأة مسنة مرّت بجانبهم تمتمت بكلمات دعاء، ثم مضت.
اللافت في هذه الحكاية أن رجال السلطة تصرفوا خارج الروتين. لم يتعاملوا بمنطق الملفات، بل بمنطق الناس. رأوا ألمًا في الشارع، فتدخلوا.
باشا القنيطرة لم يبحث عن مبررات قانونية. لم ينقل الأمر للجهات المختصة فقط. تحرك بنفسه، وتأكد أن الشخص المعني وصل إلى بر الأمان. هذا النوع من السلوك نادر لكنه ممكن، ويكشف عن الجانب الإنساني داخل الإدارة.
القائد لم يتعامل مع الموقف كعبء إضافي. رأى فيه مسؤولية مباشرة. تصرف بسرعة، نسق، تابع، وأشرف على التنفيذ. حتى عون السلطة، الذي كان يمكنه أن يكتفي بالنقل، اختار أن يرافق الحالة إلى نهايتها.
ما حدث في القنيطرة لم يكن مبادرة موسمية، ولا حملة علاقات عامة. كان لحظة صدق إنساني في قلب مدينة مزدحمة. كانت رسالة بأن المسؤولية لا تتعلق فقط بالضبط والتنظيم، بل أيضًا بالرحمة واليقظة الإنسانية.
الطفلة ووالدها ربما لم يحفظا أسماء من ساعدوها. لكنهما عاشا يومًا مختلفًا. نامت في مكان دافئ، أكلت بطمأنينة، وأمسك والدها يدها وهو مرتاح لأول مرة منذ أيام.
في الشارع، لا أحد يعلم من يراقب، ومن يتدخل، ومن يختفي. لكن يوم أمس، في القنيطرة، كان رجال السلطة حاضرين. رأوا، تصرفوا، وبصمت، غيّروا شيئًا صغيرًا جدًا… لكنه حقيقي.
1 38 زيارة , 1 زيارات اليوم