في اللحظة التي يظن فيها البعض أن المشهد هادئ، يكون التاريخ قد بدأ في التحرّك بصمت.

في اللحظة التي يظن فيها البعض أن المشهد هادئ، يكون التاريخ قد بدأ في التحرّك بصمت.

- ‎فيواجهة, مجتمع
IMG 20250716 WA0120

 

نجيبة جلال /

إعلان يمكن النقر عليه

هكذا هي اللحظات الفاصلة في عمر الأمم. لا تأتي مصحوبة بدويّ المدافع، ولا تعلن عن نفسها بخطب ملتهبة، وإنما تبدأ كما تبدأ الفصول الكبرى في التاريخ: بخطوة محسوبة، وحركة دقيقة، ثم تُفتح الستارة على فصل جديد، يُكتب بالحبر الثقيل.

وفي المغرب الآن، تتكشف ملامح ثورة هادئة، لا ترفع راية صاخبة، ولا تزاحم في الصفوف الأولى، ولكنها تتقدم ـ بتؤدة وصرامة ـ نحو أحد أعقد الملفات وأكثرها حساسية: ملف الفساد. لكن، ولأن لكل ثورة عقلها الذي يقودها، فقد اختارت الدولة ألا تبدأ من الهوامش ولا من حواشي الأجهزة، وإنما من جوهر السلطة، من قلب المركز، حيث يتلاقى القضاء والنيابة العامة، في مفترق الطرق بين الدولة والحق، بين المسؤولية والحساب، بين العدل والنفوذ.

ليس سرًّا أن القضاء هو مرآة الدولة، وأن النيابة العامة ـ باعتبارها جهة الادعاء باسم المجتمع ـ هي الذراع التي تمسك بميزان العدالة. وحين تبدأ الدولة معركتها الكبرى من هاتين السلطتين، فإنها تُعلن، بشكل لا لبس فيه، أن اليد التي ستُضرب بها الفساد، يجب أن تكون أولًا طاهرة، نظيفة، محرّرة من رواسب الماضي وشبهاته.

وقد يخطئ البعض قراءة ما يجري الآن من تحقيقات تطال عدداً من القضاة، ويظن أنها حملة موسمية أو فورة مؤقتة. غير أن التدقيق في توقيتها، وفي الجهات المعنية بها، يُفضي إلى خلاصة واحدة: المغرب يدخل، بحذر محسوب، عصر تصفية الحساب مع التراكمات، لا على الطريقة الثورية التي تُسقط المؤسسات، ولكن على الطريقة الإصلاحية التي تُصلحها من الداخل.

إننا لا نشهد فقط عملية تطهير، بل بداية هندسة جديدة لدولة تحاول أن تستعيد المبادرة، أن تُعيد الاعتبار للقانون، وأن تُطلق، من داخل مؤسساتها السيادية، إشارة البدء في المعركة التي لا تُخاض ضد أفراد، بل ضد منظومة تعايشت طويلاً مع الفساد، حتى صارت تحميه وتعيد إنتاجه.

إن ما نعيشه اليوم ليس حملة عابرة، بل مشروع وطني لإعادة بناء الثقة للمواطن في الدولة عبر بوابة العدالة.
وإذا كانت الخطوة الإصلاحية قد بدأت، فإن الأمل معقود على استدامتها وتوسيع أثرها، حتى يظل القضاء في طليعة المؤسسات التي تكرّس ثقة المواطن في الدولة، وتُجسد بعمق فلسفة دستور 2011 في فصل السلط وتوازنها وتعاونها.

إن للقضاء، في المرحلة المقبلة، دورًا يتجاوز إصدار الأحكام أو تفسير النصوص، إنه مدعو لإعادة تأسيس الثقة بين الدولة والمجتمع، كما أن على النيابة العامة ألا تكتفي بما يُحال إليها، بل أن تُبادر، أن تتحرك، أن تُقنع الرأي العام بأنها ليست درعًا واقيًا لمراكز النفوذ، بل رأس الحربة في معركة التطهير.

وما بين اليد التي تطهّرت والسيف الذي سيسقط على شبكات الفساد، سيكون على الدولة أن تُحسن الإصغاء، لا لهتاف الشارع فقط، بل لنداء الضمير الوطني. ذلك أن الشعوب التي تحترم مؤسساتها، لا تفعل ذلك لأنها خُدعت بها، بل لأنها رأت هذه المؤسسات تُحاسب نفسها قبل أن تحاسب الآخرين.

وفي النهاية، فإن كل إصلاح حقيقي يبدأ بسؤال بسيط: من سيحاكم القاضي إذا أخطأ؟ ومن سيجرؤ على لمس النيابة إذا انحرفت؟ والمغرب، وقد تجرأ على طرح السؤال، يجيب الآن بالأفعال لا بالأقوال.

1 41 زيارة , 1 زيارات اليوم

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *