عندما اختنق الدين و السياسة معا وسط بركة مياه الشعبوية

عندما اختنق الدين و السياسة معا وسط بركة مياه الشعبوية

- ‎فيواجهة, رأي, سياسة
30410839 29040792

راديو إكسبرس

البث المباشر

‎لم يكن من الصدفة أن تَصعد التيارات الإسلامية إلى واجهة المشهد السياسي المغربي في لحظة اضطراب تاريخي، حيث تسللت إلى قلوب ملايين المغاربة من بوابة “الهوية” و”العدالة” و”محاربة الفساد”، مقدّمةً نفسها كمنقذ أخلاقي في زمن الخيانة السياسية. لكن، كما يقول التاريخ دائماً: ليست النوايا من تصنع التحولات، بل الكفاءة، الرؤية، والقدرة على التغيير. وهذه جميعها، للأسف، كانت غائبة تماماً عن تجربة الإسلاميين في المغرب

منذ أن وطئت أقدامهم قبة البرلمان ومؤسسات الدولة، انكشف الضعف البنيوي للإيديولوجية الإسلامية، وظهر جليّاً أن خطابهم كان مُصمّماً من أجل التأثير العاطفي لا من أجل البناء السياسي. كانوا يُتقنون الخطابة أكثر من التشريع، ويتقنون دغدغة مشاعر الناس أكثر من إدارة الملفات، وعندما وُضعوا أمام امتحان السلطة، سقطوا سقوطاً أخلاقياً وسياسياً مدويّاً، فخانوا وعودهم، وتحالفوا مع من كانوا يُكفّرونهم سياسياً، وصمتوا عن الفساد الذي  أقسموا بمحاربته

الإيديولوجية الإسلامية في السياسة المغربية تحوّلت إلى نسخة منقّحة من الشعبوية المقنّعة بالدين. بدل أن تُقدّم مشروعًا يُوازن بين المرجعية الدينية ومتطلبات الدولة الحديثة، انساقت خلف حسابات انتخابية ضيقة، وامتهنت التبرير باسم “الواقعية السياسية”. رأينا كيف تحوّلت مفاهيم مثل “الحكامة”، و”محاربة الريع”، و”التقشف”، إلى سكاكين سياسية استُعملت ضد الطبقة الوسطى، بينما ظلّت دوائر الامتياز سليمة محصّنة

هل كان الشعب المغربي ينتظر من حزبٍ يرفع شعار “الإسلام هو الحل” أن يُمرر قوانين تقشفية تقصم ظهر المواطن البسيط؟

‎هل كان ينتظر أن يُدافع عن التطبيع دون خجل، أو أن يُحافظ على امتيازات النخب بينما يُطالب الفقراء بشدّ الحزام؟

لقد اكتشف الناس سريعًا أن “المشروع الإسلامي” كان، في جوهره، مشروعًا سلطويًا بقناع دعوي، لا يختلف كثيرًا عن باقي المشاريع التي سبقته، سوى في قدرته على المتاجرة بالمقدس

‎ولأنهم لم يأتوا من خلفية سياسية عميقة، بل من مدارس تربوية مغلقة، لم يكن لدى الإسلاميين ما يقدّمونه سوى الشعارات. لا تصورات اقتصادية واضحة، لا برامج إصلاحية حقيقية، لا مشروع مجتمعي متكامل. وبدلاً من تحديث الإيديولوجيا لتتلاءم مع التحولات الكبرى، فضلوا العيش في زمن “التمكين”، و”الخلافة”، و”الأمّة”، وكأن المغرب بلد خارج التاريخ

ومع الوقت، صار البروفيل السياسي الإسلامي لا يثير سوى السخرية. فقد تدحرج من صورة “المناضل التقي” إلى صورة “الانتهازي المُلتحي”، يتلو الآيات في البرلمان، ثم يُدافع عن السياسات النيوليبرالية الجشعة في الكواليس، ويُعطي دروسًا في الأخلاق بينما يعيش على مائدة السلطة. هذه الازدواجية القاتلة، أفقدت المشروع الإسلامي شرعيته الأخلاقية قبل السياسية، وساهمت في توسيع الفجوة بين السياسة والمجتمع

اليوم لم يعُد للإسلام السياسي في المغرب أي بريق، لا لأن الناس، وبعد سقوط مدوٍّ لحزب العدالة والتنمية، كفروا بالدين، بل لأنهم كفروا بتسييس الدين واختزاله في تكتيك انتخابي قذر. فقد تبيّن أن القداسة لا تصنع رجال دولة، وأن اللحية لا تُنتج مؤسسات، وأن الخطب الرنّانة لا تحل أزمات الاقتصاد والتعليم والصحة

‎بل إن أخطر ما خلفته هذه الإيديولوجيا، هو قتل الأمل في السياسة ذاتها، حيث ساهمت في نشر ثقافة اللامبالاة والعدمية، بعدما خذلت فئات واسعة من الشعب كانت ترى فيها البديل

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *