ميمونة الحاج داهي/
في أي مجتمع، تمثل الطفولة جوهر الأمل والمستقبل، فهي البذرة التي تُزرع اليوم لتحمل ثمار الغد. لكن عندما تُترك هذه البذرة فريسة للفساد والتلاعب، تصبح الأحلام التي تحملها مجرد أوهام تُسحق تحت وطأة الإهمال والاستغلال. وهذا ما جسدته مأساة الطفلتين في الناظور وبركان، حيث سقطتا ضحيتين لنموذجين مختلفين من الفساد: أحدهما تحدٍّ صارخ للقانون، والآخر انهيار مروع للواجبات السياسية والإدارية.
في بني انصار، لم تكن الطفلة مجرد ضحية، بل كانت رهينة داخل أسرتها، التي يفترض بها أن تكون الملاذ الأول للحماية والأمان. لكنها وجدت نفسها في قلب لعبة قذرة، حيث تحولت إلى أداة تُستغل لتحقيق مكاسب شخصية غير مشروعة. هنا، “التحدي” لا يقتصر على الأخلاق، بل يتجاوز ذلك ليصل إلى القانون نفسه، الذي يُفترض أنه الدرع الواقي للأطفال من مثل هذه الانتهاكات. كيف يمكن أن يسمح نظام الحماية الاجتماعية والقضائي بأن تُستغل طفلة بهذه الطريقة دون رادع حقيقي؟ هل أصبح القانون مجرد حبر على ورق، لا يحمي إلا من يملك القوة والسلطة؟
أما في بركان، فقد كانت المأساة مختلفة في الشكل، لكنها متطابقة في الجوهر، إذ غرقت الطفلة في حفرة للصرف الصحي، بعد أن كشفت السيول عن هشاشة البنية التحتية نتيجة إهمال قاتل يعكس مدى استهتار المسؤولين بحياة المواطنين، وخاصة الأطفال. سقوطها لم يكن مجرد حادث عرضي، بل نتيجة مباشرة لسياسات فاسدة، تضع المصالح الشخصية فوق أبسط حقوق الإنسان، وأهمها الحق في الحياة. كيف يمكن أن تُترك حفرة مكشوفة في موسم الأمطار رغم أنها تشكل تهديدًا واضحًا، دون أن يتحرك أحد لإغلاقها؟ وكيف يمكن أن يتحول فشل التسيير و التدبير إلى فاجعة تسرق حياة الأبرياء؟
هاتان الطفلتان، الغريقتان في مستنقعين مختلفين، الأولى غرقت في “تحدي” القانون، والثانية في مجاري الصرف السياسي، تمثلان وجهاً لواقع مظلم، حيث تتلاشى المسؤولية، ويفلت المذنبون من العقاب، بينما يدفع الأبرياء الثمن. الفارق بين الاستغلال الأسري والإهمال السياسي قد يبدو كبيرًا، لكنه في الحقيقة مجرد انعكاس لوجهين لعملة واحدة: غياب الضمير وسيادة الفساد.
الأسئلة التي تُطرح هنا لا تتعلق فقط بالمأساة نفسها، بل بما يكشفه هذا الواقع من انهيار في المنظومة القانونية والحقوقية. أين هي الجهات المكلفة بحماية الأطفال؟ أين الرقابة التي تمنع الأسر من التلاعب بمصير أبنائها؟ وأين المسؤولون الذين يفترض أنهم يسهرون على سلامة البنية التحتية؟ هذه الحوادث ليست استثناءً، بل جزء من نمط متكرر من الإهمال واللامبالاة، يجعل من الطفولة ضحية دائمة لمنظومة لا ترى فيها سوى أرقام هامشية في تقارير سنوية
إن استمرار هذا الواقع يعني أن كل يوم قد يحمل معه قصة مأساوية جديدة، وكل طفل اليوم قد يكون الضحية التالية. لا يمكن لأي مجتمع أن يدّعي التقدم وهو لا يستطيع ضمان أبسط حقوق أطفاله. الإصلاح الحقيقي لا يكون بالشعارات والوعود الفارغة، بل بمحاسبة كل من يفرط في مسؤوليته، وبإرساء قوانين تُطبق بصرامة، لا أن تظل حبراً على ورق.
إن الطفولة ليست هامشاً في كتاب المجتمع، بل هي الصفحة الأولى والأساس الذي يُبنى عليه كل شيء. وكل تقصير في حمايتها هو جريمة لا تُغتفر. فإما أن يستيقظ الضمير الجمعي ويتحرك لإيقاف هذا النزيف، أو سنبقى نكرر نفس المآسي، بينما تغرق الطفولة في ظلام الفساد والإهمال، دون أن يكون هناك من ينقذها.
■ خاص: بصفتي أمًّا، يعصرني الألم لما حلَّ بالفتاتين، فالماء غدر بإحداهما، والتيه ابتلع الأخرى. إلى والدة سلمى، غريقة مجاري الصرف الصحي في بركان، لا كلمات تواسي فاجعة فقد الابنة، ولا عزاء يداوي نزيف القلب، لكنني أسأل الله أن يهبك صبرًا بحجم الفقد، وثباتًا لا تهزه مرارة الفراق. أما ملاك، فإن صحّ أن اليد التي كان يفترض أن تصونها دفعتها نحو الهاوية، فإنني لا أملك إلا أن أقدّم لها التعازي في أمومة لفظت روحها قبل أن تفقدها الابنة، وأدعوها أن تتشبث بصبر الأنقياء، فالله لا يغفل عن مظلمة، ولا يضيع عنده حق.