بقلم ميمونة الحاج داهي /
المغرب يمر بمرحلة دقيقة تتطلب تأملا معمقاً لفهم طبيعة الحملات الإعلامية الممنهجة التي تستهدف مؤسساته، والكشف عن خلفياتها وأهدافها. هذه الحملات ليست مجرد تعبير عن الرأي أو نقد مشروع، بل هي جزء من استراتيجية منظمة تهدف إلى زعزعة الاستقرار الداخلي من خلال التشكيك في شرعية الدولة وتقويض ثقة المواطنين بمؤسساتها.
يُعرف هذا النوع من الهجمات بأنه شكل من أشكال “حروب الإدراك”، حيث لا يُشن الهجوم عبر المواجهة المباشرة، بل عبر إعادة تشكيل وعي المجتمع، وتوجيهه نحو فقدان الثقة في الدولة، مما يمهد الطريق لإضعاف النظام السياسي وتقويض سيادته دون الحاجة إلى تحركات مادية مباشرة.
الآليات المستخدمة في هذه الحملات تُظهر مستوى عالياً من التنسيق، حيث يتم تضخيم الأحداث، واقتطاع الوقائع من سياقاتها، وإعادة تفسيرها بما يخدم أجندات محددة. اللافت أن الاستهداف لا يقتصر على قطاع واحد، بل يشمل المؤسسات السيادية كافة، بدءًا بالدبلوماسية، مرورًا بالأمن والقضاء، ووصولًا إلى المؤسسة الملكية، ما يعكس رغبة واضحة في زعزعة ركائز الدولة وإضعاف شرعيتها بشكل منهجي.
هذا التكتيك ليس عشوائياً، بل يقوم على استهداف كل مؤسسة وفق موقعها ودورها داخل المنظومة الوطنية، بحيث يتم التشكيك في السياسة الخارجية لإضعاف موقف المغرب دولياً، والتشهير بالقضاء لضرب الإيمان بسيادة القانون، والطعن في الأمن الوطني لخلق إحساس بانعدام الحماية، وأخيرًا استهداف المؤسسة الملكية باعتبارها الضامن الأساسي لاستقرار الدولة ووحدتها.
الهجمات الإعلامية على وزارة الخارجية، على سبيل المثال، تكشف عن إدراك الأطراف المعادية بأن المغرب عزز موقعه الدبلوماسي بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة، سواء في ملف الصحراء أو في توسيع شراكاته الاستراتيجية مع قوى دولية وإقليمية. التشكيك في هذه الإنجازات ومحاولة تصويرها كإخفاقات هو محاولة لتقويض الثقة في السياسة الخارجية المغربية، وعزلها عن حلفائها، ودفع الرأي العام إلى الاعتقاد بأن التحركات الدبلوماسية المغربية ليست سوى سلسلة من التنازلات. هذا الأسلوب يُستخدم عادة لضرب موقع الدولة في الساحة الدولية، وإضعاف موقفها في المفاوضات الإقليمية والدولية.
بالتوازي مع ذلك، نجد أن استهداف وزارة العدل يأخذ بُعداً آخر، حيث يتمحور حول التشهير بالوزير وإثارة الشبهات حول نزاهته، وهو ما يعكس تكتيكاً مختلفاً يقوم على ضرب مصداقية الإصلاحات القانونية والقضائية من خلال شخصنة الهجوم. الهدف هنا ليس الوزير كشخص، بل منظومة العدالة ككل، بحيث يتم تصوير القضاء على أنه خاضع لتأثيرات سياسية أو غير قادر على تحقيق العدالة، مما يؤدي إلى تآكل ثقة المواطنين في المؤسسة القضائية، وهي إحدى الركائز الأساسية للدولة الحديثة. هذا التكتيك يتقاطع مع الهجمات على الأمن الوطني، حيث يتم تصوير الأجهزة الأمنية وكأنها جهات قمعية أو متورطة في تجاوزات، رغم أن الأمن هو أساس الاستقرار الداخلي.
الربط بين القضاء والأمن الوطني في هذه الحملات ليس مصادفة، بل هو جزء من استراتيجية تستهدف المؤسسات التي تشكل العمود الفقري لاستقرار أي دولة. حين يتم التشكيك في نزاهة القضاء، ويُصوَّر الأمن الوطني على أنه طرف في انتهاكات مفترضة، يصبح المجال مفتوحاً للترويج لفكرة انهيار العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، وهو ما يخلق مناخاً من الشك والتوتر، يمكن استغلاله لدفع بعض الفئات إلى التمرد على المؤسسات الرسمية. هنا يأتي دور وزارة الداخلية، التي تُستهدف أيضاً باعتبارها الجهة المسؤولة عن ضبط الأمن العام، حيث يتم تصويرها كأداة قمع بدلاً من كونها جهازاً لتنظيم وضبط المجال العام، بهدف خلق فجوة بين المواطن والدولة وإضعاف قدرة الحكومة على فرض القانون.
غير أن أخطر مراحل التصعيد في هذه الحملات تتمثل في محاولة النيل من المؤسسة الملكية نفسها، عبر فبركة الأخبار ونشر الشائعات، واستغلال وسائل الإعلام الرقمي لإحداث بلبلة واسعة. استهداف رأس الدولة ليس مجرد هجوم على شخص الملك، بل هو استهداف مباشر لوحدة البلاد واستقرارها، لأن النظام الملكي في المغرب ليس مجرد شكل من أشكال الحكم، بل هو عنصر جوهري في التوازن السياسي والاجتماعي والتاريخي للدولة. هذه المرحلة من الحملة تُظهر أن الهدف النهائي لهذه العمليات الإعلامية هو تفكيك أسس الشرعية السياسية، وليس مجرد انتقاد السياسات أو المسؤولين.
في مواجهة هذه الحرب الناعمة، لا يكفي الرد الرسمي أو التفنيد المباشر، بل يتطلب الأمر استراتيجية متكاملة تجمع بين تعزيز الوعي الإعلامي لدى المواطنين، وتقوية الجبهة الداخلية عبر ترسيخ ثقة المواطن في مؤسساته من خلال سياسات عمومية واضحة وشفافة، بالإضافة إلى تعزيز السيادة الرقمية لمواجهة محاولات اختراق المجال الإعلامي الوطني والتلاعب بالرأي العام. هذا النوع من التحديات يفرض على المغرب ليس فقط الدفاع عن نفسه إعلامياً، بل تطوير أدوات أكثر ذكاءً لمواجهة التضليل، ورفع منسوب التفكير النقدي لدى المواطنين حتى لا يكونوا عرضة للاستغلال والتلاعب.
رغم خطورة هذه التحديات، يملك المغرب مقومات مؤسساتية وشعبية تجعله قادراً على مواجهة هذه الحملات وإحباط أهدافها. لكن استمرار الاستهداف يفرض يقظة دائمة، وجهوداً متواصلة لحماية استقرار البلاد من محاولات الاختراق الإعلامي والتلاعب الإدراكي، وهو ما يجعل التحصين السياسي والمجتمعي ضرورة لا غنى عنها في المرحلة المقبلة.
…..و لنا عودة