نجيبة جلال /
الرقم الذي دوّى في الفضاء العام: 13 مليار درهم. لم يكن مجرد معطى مالي بل تحوّل إلى وقود لمعركة انتخابية قبل أوانها. تضخم فجائي، تهويل منظم، وركوب متعمد على موجة المزايدات. كل شيء خضع لحسابات السياسوية الرخيصة، حتى دعم اللحوم الحمراء الذي كان إجراءً ظرفيًا لحماية القدرة الشرائية للمغاربة، تم تقديمه كما لو كان جريمة في حق الوطن.
صحافة موجهة، خطابات مستعجلة، وأبواق حزبية تصرخ من كل صوب، وكأن القرار العمومي أصبح مشجبًا لتعليق الفشل، وصندوق الدعم صار كيسًا للنهب الجماعي. الكذبة رُددت حتى تحولت إلى “حقيقة مزيفة” يتعامل معها البعض كما لو أنها قرآن منزل. لكن الحقيقة، كما أكدتها الأرقام الرسمية، مختلفة تمامًا: ما صُرف فعليًا لم يتجاوز 437 مليون درهم، وليس 13 ملياراً كما يُروج له. لكن من يهتم بالحقيقة حين تكون الإثارة أكثر جاذبية؟
الدعم لم يكن نزوة ولا صفقة في كواليس الريع، بل خيارًا استراتيجيًا استوجبته أزمة قاسية: جفاف مستمر، ارتفاع جنوني لأسعار الأعلاف، وتراجع حاد في القطيع الوطني. الدولة تحركت لإعادة التوازن للسوق، لا لتغذية المضاربات. لكن في زمن الشعبوية، حتى الإنقاذ يُصوَّر على أنه مؤامرة.
تمّ تخويف المستثمرين، ومنعوا من الاستيراد تحت ضغط الاتهام الجاهز: “مستفيد مشبوه”. والنتيجة؟ أقل من مليون رأس تم استيرادها في عامين، مقابل حاجة وطنية تناهز 12 مليون رأس سنوياً. كيف يمكن لرقم بهذا الهزال أن يُخفض الأسعار؟ بل كيف يمكن للتدخل أن ينجح وسط هذا الضجيج المشوش؟
ثم يأتي من يُصوّر أن الدعم فشل لأنه لم يلمس الأسعار. هذا جهل مزدوج بالسوق وبسياسات التدخل. الهدف لم يكن تخفيض الثمن بل الحيلولة دون انفجاره، وضمان وجود العرض و إتاحة الفرصة لتجديد القطيع الوطني، فالسوق لا يفهم إلا لغة الاستقرار والثقة، وهذه الأخيرة ذبحتها الحملة التضليلية من الوريد إلى الوريد.
قرار عدم دبح الأضاحي هذه السنة لم يكن نتيجة فشل، بل اختيار سيادي دقيق، يراعي هشاشة الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ولا يقفز على واقع القدرة الشرائية. ربط القرار بالدعم، كما يفعل البعض، هو قفز بهلواني على الوقائع، وتحايل سافر على السياق.
ثم هناك من يحوّل النقاش إلى محاكمات شخصية، حيث تُقاس المؤسسات بأسماء مسؤوليها، وكأننا في مسلسل رديء يحاسب الأدوار لا السياسات. إنها حملة تفتيت ممنهجة للنقاش العمومي، ومقدمة لحرب انتخابية قذرة، حيث الحقيقة تُدفن تحت ركام الادعاءات.
أما دعوات التحقيق التي تُرفع كلما عجزت المعارضة عن الإقناع، فهي حق يراد به باطل. لسنا في جمهورية منزوعة المؤسسات، ولا في بلد غائب عن الرقابة والمحاسبة. لكن تحويل كل مبادرة إلى شبهة، وكل دعم إلى غنيمة، هو عبث لا يخدم سوى تجار الغضب الانتخابي.
نعم، دخلنا سنة انتخابية، لكن ما يجري لا يبشر بنضج ديمقراطي، بل بفوضى تقودها الحناجر بدل الأفكار، وتُغذّيها الأوهام بدل الأرقام. من كان صادقًا في محاربة الفساد، فليبدأ بمحاربة التزييف… لأن الحقيقة، للأسف، هي أولى ضحايا هذا السباق المبكر نحو الخراب.
1 53 زيارة , 1 زيارات اليوم