آلاء المرابط : طبيبة ومؤسسة منظمة “صوت المرأة الليبية”، ورئيسة مجلس إدارة منظمة “بنات لا عرائس”، وزميلة بمؤسسة رادكليف بجامعة هارفارد، وقيادية شابة في المنتدى الاقتصادي العالمي، وشخصية ضمن قائمة تايم 100 لأكثر الشخصيات تأثيرًا، وسفيرة سابقة لأهداف التنمية المستدامة.
كامبريدج – على مدار ما يقرب من عقدين، عملتُ عند تقاطع التنمية والصحة والأمن. وخلال مشاركتي في موائد مستديرة مع رؤساء دول، وإحاطات طارئة، ومنتديات للمانحين، لاحظت نمطًا صارخًا: غالبًا ما يُستبعد الفاعلون القائمون على الإيمان من الاستراتيجيات العالمية. وعندما يكون لهم حضور، يُعاملون كشخصيات رمزية لا كشركاء حقيقيين.
وليس هذا مجرد تغافل، بل فشل استراتيجي.
فلا يزال صانعو السياسات العالمية الذين يضعون جداول الأعمال الإنسانية والتنموية ينظرون إلى الإيمان الديني من منظور قديم، كونه تقليدًا عتيقًا، أو عقبة أمام التقدم، أو حتى تهديدًا أمنيًا. ولكن الحقيقة أن الإيمان لا يزال أحد أقوى وأبقى القوى المنظمة في العالم. وفي العديد من المجتمعات الهشة أو المحرومة، يشكل القادة الدينيون مصدر الثقة الأول – وأحيانًا الوحيد – للسلطة والدعم. وإذا كنا نرغب في الوصول إلى أكثر الناس تهميشًا، وإحداث تغيير واسع النطاق في حياة الناس، وضمان مشاركة النساء الكاملة في التنمية، فلا يمكننا تجاهل الدين.
لقد أدركت الحركات الاستبدادية والمتطرفة منذ وقت طويل ما لا يزال كثيرون في مجال التنمية يرفضون الإقرار به: أن المجتمعات الدينية قادرة على تعبئة الملايين. وترددنا في الانخراط مع هذه المجتمعات لم يحد من قوتها، بل سمح للآخرين بتعريفها حسب أهوائهم.
لم أتردد يومًا في الحديث عن إيماني الإسلامي، الذي يُنظر إليه كثيرًا على أنه إيمان ظاهر وذو أبعاد سياسية على نحو لا يُطبق على غيره. قبل عشر سنوات، ألقيت محاضرة في مؤتمر “تيد” بعنوان “ما يقوله ديني حقًا عن النساء”، وشاهدها أكثر من خمسة ملايين شخص. وأعتقد أنها لاقت صدى لأنها عبّرت عما يشعر به كثيرون ولا يجرؤون على قوله: أن الإيمان الديني مسألة سياسية بعمق. فهو يُشكل كيف تُعرّف المجتمعات السلطة، والواجب، والعدالة، والنوع الاجتماعي. وقد يُساء استخدامه لتبرير الأذى، ولكنه أيضًا يُمكن استعادته كقوة للشفاء.
عندما أسست منظمة “صوت المرأة الليبية”، وهي منظمة غير حكومية تُعنى بالأمن الشامل، أدركت بسرعة أهمية تأطير قضايا الأمن والحقوق من خلال الدين. وما إن صدّقت وزارة الأوقاف على النصوص الإسلامية الواردة في موادنا، حتى بدأ الناس في التفاعل بشكل مختلف، وفتحت المدارس أبوابها، وأقمنا فعاليات في الساحات العامة. لقد كان للنصوص الدينية وقعٌ وتأثير حيث فشلت اللغة التنموية. ومن خلال استثمار التأثير الثقافي والأخلاقي للإسلام، قادت المنظمة واحدة من أكبر الحملات لأمن النساء في ليبيا، وصلت مباشرة إلى 50 ألف شخص. فالإيمان غالبًا ما يكون لغة الثقة المشتركة. وفي السياقات الهشة، الثقة هي أغلى عملة.
لا شك أن هناك من يسيء استخدام الدين لنشر التطرف. لكن في المقابل، هناك العديد من الشبكات والمنظمات التي تستثمر الإيمان كقوة للسلام والاستقرار والتقدم. فالمنظمات المستوحاة من الإيمان (FIOs) تقدم الخدمات وتحقق النتائج بصمت، بينما تعاني الكثير من وكالات التنمية من إحداث التأثير. وغالبًا ما تكون هذه المنظمات أول من يصل إلى المجتمعات وآخر من يغادرها، لأنها متجذّرة في المجتمعات وتحظى بثقة جميع الناس على اختلاف خلفياتهم. ففي الدول الإفريقية منخفضة ومتوسطة الدخل، على سبيل المثال، تقدم هذه المنظمات حاليًا ما بين 30 إلى 70% من خدمات الرعاية الصحية.
وإلى جانب مواقعها المتميزة، تمتلك العديد من هذه المنظمات موارد وافرة وشبكات محلية ووطنية ودولية واسعة. فمثلًا، تعمل منظمة “محفظة السامري” (Samaritan’s Purse)، وهي واحدة من أكبر هذه المنظمات في العالم، في أكثر من 100 دولة بميزانية سنوية تقترب من مليار دولار. وفي عام 2024 وحده، وزعت 55 مليون لتر من المياه النظيفة، ودرّبت أكثر من 174 ألف شخص على أفضل ممارسات النظافة والصحة العامة.
وبعيدًا عن المنظمات الرسمية، يمكن أن تُحدث الشراكات الدينية فارقًا حقيقيًا. ففي الجزائر، تعاونت وزارتا الصحة والشؤون الدينية مع صندوق الأمم المتحدة للسكان لتدريب “المرشدات” – وهنّ مستشارات دينيات – على الحديث بشكل صريح عن صحة الأم وتنظيم الأسرة. وقد نجحت التجربة. فقد أسهم العمل مع قادة محليين ملمين بالسياق الثقافي في تقليل الوصمة الاجتماعية.
وقد أطلق الصندوق لاحقًا مبادرة لتوجيه الأئمة الجزائريين حول كيفية إدراج معلومات عن الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية في خطب الجمعة. وكانت المبادرة فعالة لدرجة أن الأئمة طالبوا بالمزيد من المواد حول العنف القائم على النوع، وحقوق النساء، ومواضيع أخرى.
ولعب القادة الدينيون دورًا محوريًا أيضًا خلال جائحة كوفيد-19. فقد ساعد القساوسة والرهبان والأئمة في تعبئة المجتمعات للامتثال لإجراءات الوقاية. وفي ولاية تينيسي الأمريكية، تعاون أكثر من 80 كنيسة مع مجموعات الصحة العامة لمواجهة المعلومات المضللة وتحسين الوصول إلى اللقاحات. وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، طلب القادة الدينيون المزيد من الدعم لقيادة الاستجابة المحلية للجائحة. فعندما يثق الناس بالمرسل، فإنهم ينفتحون على الرسالة.
كما يساهم الفاعلون الدينيون في تغيير المعايير الاجتماعية. فقد قامت مؤسسة الإسلام للبيئة والعلوم البيئية بتعبئة آلاف المساجد خلال شهر رمضان لتقليل النفايات. وساعدت شبكة “الإيمان من أجل العمل” أكثر من 90 ألف فتاة في كينيا ونيجيريا وباكستان على الالتحاق بالمدرسة من خلال التعاون مع قادة دينيين. أما مركز الوساطة بين الأديان في نيجيريا، الذي يقوده إمام وقس كانا في السابق عدوين، فقد درّب أكثر من 20 ألف قائد ديني على المصالحة.
وهذه ليست مجرد قصص فردية، بل نماذج قابلة للتكرار، تعتمد على ثلاث ركائز تبذل وكالات التنمية عقودًا لبنائها: الشرعية، والقرب من الناس، والثقة.
وقد رأيت هذا الإمكان مرة أخرى عام 2022، عندما أطلقت مبادرة “من أجل أمي” (التي أصبحت الآن “كل حمل”)، وهي مبادرة خيرية يقودها الإيمان لصحة الأمهات والرضّع. ومن خلال إشراك القادة الدينيين كشركاء في جمع التبرعات والدعوة، لا كمجرد منفذين، استثمرنا في بنية تحتية قائمة على القيم، طالما أغفلها المانحون.
ويعمل الآن “لجنة جورجتاون-لانسيت للإيمان والثقة والصحة”، التي أتشرف بعضويتها، مع شركاء عالميين لدمج الإيمان بشكل أكبر في البرامج الصحية العامة، وتوسيع آفاق القادة في هذا المجال. فالإيمان هو عدسة ينظر بها الناس إلى العدالة، والواجب، والسلطة الشرعية، وهو إحدى أقوى قوى البشرية في الشفاء.
إن جوهر التنمية العالمية هو بناء مستقبل مشترك يتمتع فيه كل فرد بصوت وفرص متكافئة. وهذا يعني أن استبعاد الإيمان والقيادات الدينية من هذا المجال يهدد الأهداف طويلة الأجل. لم يعد السؤال ما إذا كان الإيمان مهمًا. السؤال الحقيقي هو: هل نملك الشجاعة، والتواضع، للانخراط معه بجدية؟
1 15 زيارة , 1 زيارات اليوم