الموسيقى من عصر الإقطاع وبدائلها

الموسيقى من عصر الإقطاع وبدائلها

- ‎فيمقالات رأي دولية, واجهة
جاك أتالي الموسيقى

راديو إكسبرس

البث المباشر

جاك أتالي : الرئيس المؤسس للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، مستشار خاص سابق للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، مؤلف 86 كتابا.

إذا أردنا الاطلاع على لمحة من الهيئة التي قد يكون عليها مستقبلنا الذي يحركه الذكاء الاصطناعي، ما علينا إلا أن نتأمل ما يحدث في عالَم الموسيقى. لقد بدأ سوق المنتجات والخدمات غير النادرة من خلال الموسيقى، حيث بدأ تَـصَوُّر فكرة المكافأة على أعمال العقل. كان لزاما على يوهان سيباستيان باخ إقامة حفلات موسيقية في المقاهي لإعالة أسرته الكبيرة، ولكن مع قدوم الثورة الصناعية، والإنتاج الضخم، والتقسيم الشديد للعمل الذي جلبته هذه الثورة، أصبحت أسواق أضخم بدرجة كبيرة متاحة.

والآن جاء الاقتصاد الرقمي ليأخذ هذا الأمر إلى مسافة أبعد. اليوم، أصبح الموسيقيون الذين اعتمدوا في السابق على اللوردات وكِبار الإقطاعيين الذين تبنوهم، ثم على المستهلكين البرجوازيين الذين كانوا قادرين على شراء تذاكر الحفلات الموسيقية، وأخيرا على شركات التسجيلات التي كانت تدفع لهم الأتعاب، يتقاضون أجورهم من خدمات البث وغير ذلك من المنصات الإلكترونية.

الآن، يقلب الذكاء الاصطناعي الصناعة رأسا على عقب، حيث بات بإمكان أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي إنتاج الموسيقى بدون مؤلفين بشريين، بالاستعانة بكتالوج هائل من الأعمال الموجودة لتدريب نفسها. على سبيل المثال، تخطت فرقة The Velvet Sundown الافتراضية علامة المليون استماع على Spotify في غضون أسابيع، كما حصدت أغنية “Heart on My Sleeve“، التي نشرها مستخدم مجهول على TikTok استعان بالذكاء الاصطناعي لإنتاج أغنية للمغني Drake يظهر فيها أيضا المغني The Weeknd، ملايين المشاهدات.

سوف نجد أيضا منسق أغانٍ اصطناعي قادر على استضافة حفلات وكأنه بشر، بكل ما يشتمل عليه الأمر من خطب وقوائم الأغاني، بالإضافة إلى موسيقى الأفلام التصويرية التي جرى إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي والأصوات المضافة التي تقلد أصوات الفنانين وأساليبهم. في كل حالة، يستطيع أي شخص إلى حد كبير توليد الموسيقى والأصوات بتكلفة منخفضة لاستخدامها في مجموعة واسعة من التطبيقات.

الواقع أن التطور مذهل. يتوقع الاتحاد الدولي لجمعيات المؤلفين والملحنين (CISAC) أن يرتفع سوق الموسيقى والمحتوى السمعي البصري الـمُنشأ بواسطة الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى عنان السماء، من حوالي 3 مليارات يورو (3.5 مليار دولار) حاليا إلى 64 مليار يورو بحلول عام 2028، حيث قد تمثل الموسيقى المولدة بالذكاء الاصطناعي نحو 20% من إيرادات منصات البث. يشير الاتحاد الدولي لجمعيات المؤلفين والملحنين أيضا إلى أن عائدات المبدعين أصبحت عُـرضة للخطر؛ في مجال الموسيقى، قد ينخفض الإجمالي بنحو 24% بحلول عام 2028.

لحماية مواد الفنانين التي تتمتع بحقوق التأليف والنشر، بدأ صُـنّاع السياسات في بعض مناطق الاختصاص في اتخاذ إجراءات تشريعية. يُلزِم القانون الأوروبي للذكاء الاصطناعي أولئك الذين ينشرون ويوزعون مواد مُنشأة بالذكاء الاصطناعي بالشفافية بشأن مصادر هذه المواد. هذا فضلا عن كثير من المشاريع الأوروبية التي تستكشف حلولا قائمة على العلامات المائية وأخرى قائمة على تكنولوجيا سلاسل الكتل لتحديد مواد المصدر ودفع رسوم صغيرة تلقائيا. ولكن سوف يتبين أن سبل الحماية هذه وهمية في الأرجح. سوف يكون من اللازم مكافأة فناني الغد بطرق أخرى. إن قدوم نوع جديد من الاقتصاد يعني أن كل شيء يجب أن يتغير.

في نهاية المطاف، يستطيع أي شخص لديه جهاز كمبيوتر أو هاتف محمول أن ينشئ، ويرتب، ويمزج، ويتقن، وينتج فيديو موسيقي، أو أن يكيّف أعماله الخاصة لألعاب الفيديو، والإعلانات التفاعلية، والحملات التسويقية، وغير ذلك من الاستخدامات. أحد الاحتمالات، إذن، هو أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيزيد من تمكين بعض الفنانين من التخلي عن الترتيبات مع شركات التسجيلات وغيرها من الوسطاء التقليديين. وبهذا، قد يحاولون الحفاظ على حوار شخصي مع معجبيهم، الذين يمكنهم تقديم تجارب مخصصة.

استشعارا للتغييرات القادمة، تحاول منصات توزيع الموسيقى استباق اللعبة من خلال التحالف مع شركات التسجيلات العريقة، التي تواجه هي ذاتها خطر الانقراض. على سبيل المثال، وقّعت شركة Spotify اتفاقية مع ثلاث شركات تسجيلات كبرى تتعهد فيها باستخدام الذكاء الاصطناعي مع الفنانين البشر ولصالحهم، بما يضمن لهم الشفافية، والموافقة، والمكافأة، والحماية من الأصوات المستنسخة. لكن هذه الشركات العريقة لن تتمكن من الوفاء بوعودها، لأن آليات المكافأة المنصوص عليها في هذه الاتفاقيات ستكون وهمية إلى حد كبير: فهي صغيرة للغاية وغير خاضعة لرقابة حقيقية.

لذا، إذا لم يكن الفنانون حذرين، فإن الاضطراب الذي سيحدثه الذكاء الاصطناعي سيكون أشبه بتغيير السيد: فبعد اللورد الإقطاعي، والبرجوازيين، وشركات التسجيلات القوية سيأتي انتصار الخوارزمية. وسوف تتبخر حماية حقوق التأليف والنشر، ويصبح الموسيقيون مجرد موظفين لدى الخوارزمية، إن لم يكونوا عبيدا لها. السبيل الوحيد الذي قد يتسنى للفنانين عبره الإفلات من هذا المصير هو أن يصبحوا رواد أعمال لإبداعاتهم، وتسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي الهائلة بأنفسهم، والاستفادة أيضا من استحالة الاستغناء عن الأداء الموسيقي الشخصي، وهي حقيقة مرئية ودائمة بالفعل.

من ناحية أخرى، بوسع المستهلكين، الذين ربما يتحولون إلى أشخاص سلبيين خاضعين للتحكم الخوارزمي، أن يؤكدوا أنفسهم. بإمكانهم أن يصبحوا مؤلفين موسيقيين مشاركين، فيحددون الشكل الذي سيُعطى للعمل الذي يستمعون إليه (من خلال اختيار نمط الموسيقى، والآلات، والمغنين)، ومثلهم كمثل الفنان، يصبحون قادرين على تفضيل التبادل الفعلي، والمباشر، والحي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في الأداء الموسيقي.

الحرية الحقيقية الوحيدة، في الموسيقى كما في أي مجال آخر، هي حرية الإبداع والتحكم في ثمرة إبداع المرء. ومن الممكن أن يعزز الذكاء الاصطناعي هذه الحرية إذا عملنا الآن من خلال التركيز على تنمية الإبداع في المدرسة وغيرها. ولكن في ظل الحال التي آلت إليها الأمور، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يتجه نحو فعل العكس تماما.

Loading

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *